البابوية
كان أحد الأساقفة يحظى بمرتبة خاصة من الأهمية، ألا وهو بابا روما، وكانت هناك أسباب عديدة جعلت مكانته ونفوذه ينموان مع مرور القرون، وأهمها بلا جدال هو انفصال الغرب المتزايد عن الشرق. كان القديسان بطرس وبولس قد استشهدا في روما، وكانت فيها منذ عهد بعيد جالية مسيحية كبيرة، لذلك كانت هي الأسقفية الأهم في الغرب، فكان من الطبيعي أن تستلم قيادة الكنيسة فيه. وعندما اكتسح العرب في زمن لاحق شمال أفريقيا وزالت منه الجاليات المسيحية القديمة ازدادت زعامة روما ثباتاً وترسخاً. ثم كانت هناك أيضاً تجارة الحج المجزية التي تفد إليها، وكان الناس يعتقدون أن عظام القديس بطرس مدفونة فيها. وقد ساهم في تدعيم مكانتها عندما انهارت الحكومة إثر غزوات البرابرة لإيطاليا أنها كانت منذ زمن بعيد عاصمة الإمبراطورية، وأن البابا كان يألف التعامل مع السلطات الإمبراطورية العليا، ومع انهيار الإدارة الإمبراطورية كان رجال البابا في أماكن كثيرة مضطرين لاستلام زمام الحكم المحلي. وقد ذهب أحد الباباوات لرؤية أتيلا زعيم قبائل الهون، وقال الناس إن تدخله الشخصي هو الذي صد أولئك البرابرة، وهكذا كانت أهمية البابوية تعلو باستمرار من نواح عديدة.
إن جزءاً كبيراً من تاريخ الكنيسة هو بالضرورة تاريخ البابوية، وهي أفضل مؤسسات المسيحية توثيقاً، لقد اقتضى تقسيم الإمبراطورية القديمة أن تصبح روما هي البطلة الحامية للإيمان في الغرب، وكان ادعاؤها بالسيادة يرتكز على كونها القيمة على رفات القديس بطرس، فكانت هي الأسقفية الرسولية الوحيدة في الغرب بلا منازع. وبعد عهد البابا غريغوريوس الكبير 590-604م وهو مؤسس السيادة البابوية في الكنيسة الغربية، لم يعد بالإمكان الحفاظ على فكرة كنيسة مسيحية واحدة في إمبراطورية واحدة، ولو ظل ثمة ممثل لإمبراطور بيزنطة في مدينة رافينا بإيطاليا. وإن آخر زيارة قام بها إمبراطور بيزنطي إلى روما كانت في عام 663 م وآخر زيارة قام بها بابا إلى القسطنطينية كانت في عام 710م.
لقد ساهمت الدبلوماسية البابوية بالتدريج في نشوء نمط من الممالك المسيحية في أوروبا البربرية، وواجهتها صعوبات جمة في مسعاها هذا، لأن الكثير من الشعوب الجرمانية كانت وثنية، بل إن بعضها كانت تعتنق مذهباً مسيحياً هرطقياً هو المذهب الآريوسي الذي ينكر ألوهية المسيح، ولم يكن بالإمكان أن تقتلع بين ليلة وضحاها التربة التي نشأت فيها هذه المعتقدات وترعرعت. لذلك كانت المسيحية في العادة تتصرف بحذر كبير، فتنصر المقامات الوثنية القديمة مثلاً عن طريق ربطها بشهيد أو ناسك مسيحي، وتتبنى أيام الأعياد الوثنية وتحولها إلى أعياد مسيحية، وهكذا دخل الكثير من السحر والخرافة إلى المسيحية وبقي فيها لزمن طويل. أما في المسائل الجوهرية، مثل إدانة الثأر بالدم أو تأييد مبدأ الزواج المسيحي الأحادي، فقد وقفت الكنيسة موقفاً حازماً، وعلى هذه الصورة تشكلت رويداً رويداً الشعوب التي سوف ينشأ منها الأوروبيون الأوائل.
إن الجزء الوحيد من أوروبا الغربية الذي انقرضت فيها المسيحية هو مقاطعة بريطانيا الرومانية، بينما استمرت هذه الديانة في إيرلندا وعلى حواف اسكتلندا، حيث دفعتها غزوات البرابرة. ومن هذا المحيط عادت الحملات التبشيرية في القرن السادس إلى البلد الذي سوف يسمى إنكلترا خاصة بقيادة القديس كولومبان الذي أسس ديراً في أيونا في عام 563م. ولكن إنكلترا سوف تكون أيضاً هدف أولى البعثات التبشيرية الكبرى التي أرسلتها روما، فقد أعاد المبشرون الرومان الذين كانوا يعملون في كنتربري تأسيس المسيحية في إنكلترا في القرن السابع بمساعدة الكنيسة السلتية مع أنهم كانوا يتنافسون معها وتم لهم ذلك عن طريق تنصير ملوك الممالك الصغيرة التي أنشأتها شعوب السكسون والجوت والإنكليز التي كانت زوارقها تفد إلى الجزيرة منذ أن غادرتها الفيالق الرومانية في عام 407م
أصول الغرب المسيحي
عندما انهار جهاز الحكم في الغرب، حل محله عدد من الممالك البربرية أسستها كلها الشعوب الجرمانية التي كانت تتدفق إلى الإمبراطورية الغربية ابتداءً من القرن الثالث فما بعد، وكانت في الحقيقة عبارة عن تنظيمات قبلية يسود فيها بعض الرجال الأقوياء. وقد ترومن البرابرة بعض الشيء وتنصروا رويداً رويداً، ولكنهم ظلوا قروناً طويلة في حالة من التخلف، فحتى أكبر ملوك أوروبا لم يكونوا أكثر من قادة عسكريين برابرة يتعلق الناس بهم بحثاً عن حمايتهم وخوفاً مما هو أسوأ. فلقد وضعت أسس هذه الحضارة الجديدة إذاً في بيئة من البربرية والتخلف.
ولم يكن هناك في أوروبا الغربية مدينة ولا حتى روما ذات الماضي العظيم تقارب في الفخامة والبهاء مدن القسطنطينية أو قرطبة أو بغداد أو تشانغ آن، ولا كانت عمارة أوروبا تقارن بعمارة الماضي الهلنستي أو بيزنطة أو إمبراطوريات آسيا، وعندما نشأت العمارة فيها فإنها استعارت أساليب تلك الحضارات. كما أن أوروبا الغربية لم تكن قادرة على إنتاج أي علم أو مدرسة تقارن بما كان في إسبانيا العربية أو آسيا، بل كانت بلاداً نائية متخلفة، وبات سكانها معتادين على الحرمان لا على الوفرة، وكانوا يلتمون معاً تحت حكم محاربيهم لأنهم يحتاجونهم لحمايتهم.
ومن الواضح أن التراث الروماني لم يختف بين ليلة وضحاها، فقد كانت الممالك البربرية تستخدم الكتبة والموظفين عندما تريد حفظ السجلات، وكانت تتعلم أساليب الرومان وتمنح الألقاب الرومانية لزعمائها، كما أنها كانت مضطرة للتعامل مع وجهاء وإداريي الأيام الإمبراطورية السابقة. وقد استمر بعض الماضي الروماني إلى الغرب من الراين والقسم الأعلى من الدانوب، ولو أن من الصعب معرفة مداه، واللغة هي إحدى الدلائل على ذلك، إذ مازالت اللغات اللاتينية التي تسمى أيضاً رومانسية متداولة في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وأماكن غيرها، لأن أعداد البرابرة الوافدين لم تكن كبيرة إلى حد يجرف الأشكال المنتشرة من اللاتينية فيها. وسرعان ما بدأ الكثيرون من أبرز رجال البرابرة يتحدثون اللاتينية، ويكتبون بها أيضاً إذا كانوا يعرفون الكتابة، أما في الجزر البريطانية فقد اختفت تلك اللغة وحلت اللغات الجرمانية للغزاة محل لغة الرومان البريطانيين، كما أن اللاتينية لم تثبت قدميها وراء حدود الإمبراطورية قط.
وكانت أهم مؤسسة خلفتها الإمبراطورية على الإطلاق هي الكنيسة، كان أساقفة الكنيسة في كافة أنحاء أوروبا الغربية شخصيات رئيسية في الشؤون المحلية، وراحوا يضطلعون بالمهام التي كانت تقوم بها الإدارة الإمبراطورية في السابق، وكانوا أحياناً أبناء أسر هامة ذات ثروة وارتباطات قوية تدعم مكانتهم ونفوذهم. وراحت الكنيسة تكتسب بالتدريج مكانة روما السابقة، أي أنها صارت تمثل الحضارة نفسها، والحقيقة أن الخط الفاصل بين المسيحية والوثنية كان هو نفسه الخط الفاصل بين الحضارة الرومانية والبربرية.
مسيحية القرون الوسطى: الغرب
إن القرون الممتدة من نهاية العصور الكلاسيكية القديمة حتى حوالي عام 1000 م تبدو اليوم أنها كانت العصر الذي تم فيه وضع أسس أوروبا، وتجد فيها معالم هامة على هذا الطريق الذي رسمت ملامح المستقبل الآتي، ولو أن التغير فيها كان بطيئاً ومقلقلاً. ثم تلمس ابتداء من القرن الحادي عشر تبدلاً محسوساً في السرعة، إذ صارت التطورات الجديدة أكثر بروزاً وبدا من الواضح أنها تمهد الطريق لشيء جديد تماماً. لقد كانت تلك بداية عصر من المغامرة والثورة في أوروبا، وسوف يستمر إلى أن يندمج تاريخها بأول عصور التاريخ العالمي، ولهذا السبب كانت فكرة أوروبا موجودة في عام 1500م، بينما لم تكن موجودة قبل ذلك بألف عام. فبحلول ذلك العصر كانت هناك مدن موزعة في أنحاء القارة الأوروبية سوف تصبح التجمعات المدنية الكبرى للسكان في أيامنا، وكان الناس في أوروبا الغربية يحصلون معيشتهم من موارد غير الزراعة، ويمكنك رؤية أنماط معقدة من التجارة يمتد بعضها لمسافات بعيدة ويتم الكثير منها عن طريق البحر، وكانت المهارات التقنية تسبب تغيراً أسرع في أي مكان آخر في العالم. وكان أكثر الأوروبيين يعلمون أن العالم الخارجي مختلف جداً عن العالم الذي يعيشون فيه، مهما سموا ذلك العالم الخارجي وكيفما تخيلوه. لقد كان ذلك العالم عالماً غير مسيحي، أي أن أوروبا كانت متميزة لأنها مسيحية، وكانت في نهاية القرن الخامس عشر تحتضن حضارة مسيحية، وإذا ما فكر الناس وقتها بحضارتها ككيان واحد فإنهم إنما كانوا يعتبرونها العالم المسيحي، وهنا تبدأ قصتنا.