طوال ألف سنة بعد عام 500 ق.م كانت البلاد المحيطة بشرق البحر المتوسط، بما فيها ساحله الشرقي وسوريا وأوروبا حتى نهري الراين والدانوب وسواحل البحر الأسود، محور قصة هامة. ولم تكن هذه البلاد معزولة قط عما يجري خارجها، بل كانت أكثر وعياً له من أي زمن مضى، كانت الأفكار والمعرفة والعادات والشعوب التي تحمل هذه الأشياء كلها تتدفق من الشمال والشرق وتغير الحياة في المنطقة تغييراً عظيماً بمرور الزمن، وكانت شعوب المنطقة تعالج هذه القوى التي تضغط عليها من الخارج وترحب بها أحياناً، إلى أن صنعت منها في النهاية شيئاً جديداً كل الجدة، وهذا ما ينقل بؤرة تاريخ العالم من الهلال الخصيب إلى الغرب. لقد وضعت شعوب البحر المتوسط وبحر إيجة حضارة راسخة خاصة بها. كانت أولى الخطوات الحاسمة في تأسيس تلك الهوية من صنع الإغريق بين عامي 700 و 350 ق.م، ففي تلك الحقبة تشكلت أمور كثيرة مازلنا نألفها، وسوف تساهم في تشكيل تاريخ أوروبا اللاحق قبل أن تبدأ تأثيرات الرومان واليهود.
كان الإغريق يستعملون كلمة "أوروبا" ولكن معناها عندهم كان مختلفاً كل الاختلاف عن معناها لدينا اليوم، لأن عالمهم كان حوض البحر المتوسط وليس البر الكبير القابع في الشمال، والحقيقة أن المتوسط كان في الأزمنة القديمة منكفئاً على ذاته إلى حد كبير، فخلف سواحله كلها تقريباً ترتفع هضاب وجبال عالية، ولا تجد سهولاً واسعة تمتد نحو الداخل إلا في ليبيا ومصر، وأكثرها الآن صحارى ولو أنها لم تكن دوماً على هذه الصورة. أما في المناطق الأخرى فلا يفصل المرتفعات والبحر إلى سهول ساحلية ضيقة، ويتغذى البحر الأسود بالأنهار الكبرى الآتية من وديان روسيا والبلقان، ويصب مياهه في البحر المتوسط. والطرف الشمالي للبحر الأسود مؤلف من سهول شاسعة، أما سواحله الشرقية والجنوبية فهي جبلية. ولا تصب في المتوسط إلا ثلاثة أنهار هامة، وهي تؤمن الوصول إلى الأقسام الداخلية من البلاد المحيطة به، فالنيل هو أطولها، وهو يمتد ألف كيلومتر نحو الداخل قبل أن يصل إلى الشلال الأول، أما نهر الرون فهو يجري في وسط فرنسا ويصرف مياه جبال الألب الغربية، وينبغ نهر الإبرو على بعد 60 أو 70 كيلومتر فقط من ساحل إسبانيا الشمالي على المحيط الأطلسي قبل أن يشق طريقه إلى المتوسط عبر وادي أراغون العريض، أما النهر الآخر الكبير الذي يهمنا فهو نهر البو في شمال إيطاليا والذي يصب في بحر الأدرياتيك.
وأما من ناحية المناخ فإن بلاد المتوسط في الغالب بلاد دافئة ولكنها ليست شديدة الحر، وتحظى بقدر معقول من المطر على سلاسلها هضابها وجبالها. وقد كانت سواحلها أكثر خضرة بكثير من 2500 عام لأن أكثر الأشجار والنباتات التي كانت تغطي الهضاب قد زالت بسبب الرعي المستمر، فأدى ذلك إلى انجراف في سطح التربة. إن غابات لبنان ماتزال مثل الأساطير، كما أن الزراعة في شمال أفريقيا تمتد إلى مسافة أكبر نحو الداخل وتمنع تقدم الصحراء التي كانت أبعد عن الساحل مما هي عليه اليوم.
كان الناس حول البحر المتوسط يحصلون معيشتهم بطرق متشابهة جداً، فالذين يعيشون على السواحل كانوا يصطادون السمك من المياه الغنية به، وفي السهول الضيقة كانوا يزرعون القمح والشعير، وعلى المرتفعات العليا كانوا يزرعون الكرمة والزيتون، وعلى الهضاب كانوا يرعون الغنم والماعز. وكانوا يمضون وقتاً طويلاً في الهواء الطلق لأن المناخ لا يكون شديدة البرودة إلا شتاء في الجبال. فكانت هذه الأشياء كلها تجمع شعوب المتوسط إذاً، كما كان البحر يزيدهم ارتباطاً بعضهم ببعض مع مرور الزمن، وقد بقي السفر عبر الماء أسهل منه على البر حتى العصور الحديثة، وكان هناك نشاط تجاري بحري واسع ولمسافات بعيدة في عام 500 ق.م، وعندما يظهر شيء جديد في أي جزء من المتوسط فإنه كان ينتشر فيه بصورة أسهل وأسرع منه في إمبراطوريات الشرق البعيدة عن البحار. ويصح هذا الأمر بالأخص على حوض بحر إيجة، وهو البحر الواقع بين كريت واليونان وتركيا.
إن طبوغرافية هذه المنطقة ومناخها متوسطية، ولكن لها مع ذلك عدداً من الملامح المميزة لها، فالسهول الساحلية وقيعان الأودية على البر الرئيسي أصغر منها في الغرب، والساحل أكثر وعورة بالصخور والأجراف وأكثر تثلماً بالموانئ والملاجئ.وتجد في بحر إيجة المئات من الجزر بعضها ليست إلا صخوراً لا تصلح لزراعة شيء وبعضها الآخر خصبة جداً، وليست هذه المنطقة كبيرة، فهي تبلغ حوالي 600 كم من ساحل تراقيا* إلى كريت، و 250 كم فقط من طروادة** إلى أقرب سواحل بر اليونان.ويكون البحر هائجاً في العادة، كما أن الرياح القوية قد جعلت الإبحار عملية شاقة إلى من خلال طرق معينة، وكان الناس منذ الأزمنة المينوية يبحرون في إيجة متنقلين بثقة من مكان إلى آخر بعد أن فهموا طبائعه، وهذا ما شجع التجارة.
منذ الأزمنة المينوية كانت أفكار ومهارات بلاد الحضارات القديمة، أي بلاد الرافدين وسوريا ومصر، قد انتقلت إلى سكان جزر بحر إيجة وسواحله. وربما انتشرت الزراعة أيضاً في زمن أبكر من ساحل بلاد الشام إلى تلك الجزر ومنها إلى مقدونيا. وكان انتقال تأثير الشرق الأدنى من خلال مرافئ بلاد الشام ودلتا النيل إلى بحر إيجة أسهل بكثير منه إلى الهند وآسيا الوسطى والصين، التي كانت تفصلها عنه حواجز طبيعية ومسافات بعيدة. كما أن طبيعة الأرض تفسر لماذا كان اتصال شعوب بحر إيجة المباشر بأوروبا الغربية قليلاً، ولو أن أوروبا قد قدمت المعادن وغيرها من المواد الأولية إلى بلاد الشرق الأدنى الغنية من خلال الفينيقيين.
* منطقة قديمة في جنوب شرقي آوروبا، هي اليوم قسمان : غربي يتبع اليونان، وشرقي يكون القطاع الأوروبي من تركيا بين المضايق وبحر مرمرة ، أهم مدنه استانبول على البوسفور والقرن الذهبي – المنجد في الأعلام.
** أو إليون : مدينة قديمة في غرب تركيا