وكان العالم قد تغير خارج القارة الأوروبية أيضاً، فرغم أن الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة قد استمرت ماعدا إمبراطورية ألمانيا، فإن سلطة أوروبا وراء البحار كانت في انحسار، ويصح هذا الوصف بالأخص على آسيا.
وكان عام 1911 م معلماً هاماً في تاريخ هذه القارة، إذ تأسست فيها جمهورية صينية كانت خاتمة ألفي عام من الإمبراطورية فيها، كما كانت اليابان قد تحدثت وصارت قوة عظمى. ثم جاءت الحرب الكبرى، وانضمت كل من اليابان وجمهورية الصين الجديدة إلى الحلفاء، ولو أن اليابانيين قد تصرفوا بحذر فتجنبوا إرسال جيش إلى فرنسا طلبه منهم الحلفاء، ولم يرسل الصينيون إلا قوة عاملة.
إلا أن البضائع المصنعة لهذين البلدين كانت هامة، وقد ازدهرت الصناعة في اليابان وفي الضواحي الصناعية الجديدة حول المدن الساحلية الكبيرة في الصين، والهند أيضاً كانت ذات أهمية اقتصادية كبيرة جداً في الحرب، وقد حشد زعماؤها قوتها بولاء خلف المجهود الحربي للإمبراطورية ومنهم عدد كبير من الزعماء الوطنيين الذين كانت بريطانيا قد بدأت بتقديم التنازلات لهم قبل عام 1914 وقد تمكن جيش الهند من حشد ملايين الرجال من دون الحاجة للتجنيد الإلزامي.
لقد حركت الحروب الأمور من نواح أخرى أيضاً، فقد تعلم بعض الآسيويين أفكاراً جديدة من خلال أسفارهم أثناء الحرب، إذ خدم حوالي مئة ألف رجل من الهند الصينية في الجيش الفرنسي بفرنسا، ولابد أن يكونوا قد رأوا وجهاً للإمبراطورية الفرنسية مختلفاً جداً عن وجهها في سايغون أو هانوي.
وكان الوطنيون في الهند والصين واليابان يتمنون أن يأتي السلام بالمزيد من التقدم ولو من أنواع مختلفة، والحقيقة أن هذه الدول الثلاث كانت بالفعل ممثلة بصورة منفصلة في مؤتمر السلام. ولكن قبل أن ينعقد هذا المؤتمر بزمن طويل كانت الثورة البلشفية قد غيرت بصورة مباشرة مصير الملايين من الآسيويين وجزء كبير من القارة، ولا ننس أن القسم الآسيوي من روسيا أكبر من الهند بحوالي أربع مرات ويساوي حجم الصين مرتين تقريباً، كما أن الثورة سوف يكون لها تأثير أكبر في آسيا بطريقة غير مباشرة، لأن الروس راحوا على الفور يبنون لأنفسهم فيها نفوذاً سياسياً عن طريق الدعاوى، وظهرت الأحزاب الشيوعية الآسيوية في الأراضي المستعمرة من قبل القوى الأخرى، وفي الدول المستقلة أيضاً. وتعمق شك القوى الاستعمارية بروسيا، خاصة في بريطانيا، التي لم تطمئن يوماً إلى الهند ولا إلى العالم العربي.
الثورة في الصين
سوف تجد الشيوعية أرضاً خصبة تستغلها في الصين. فبعد أن ابتدأت الجمهورية الجديدة بدايتها العنيفة أدت الحرب الأهلية إلى الانقسام والفوضى، ولم يتم شيء لتلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية الملحة لجماهير الفلاحين المتزايدة في البلاد، فظلت أعداد الذين لا أرض لهم والمدينين ترتفع باطراد، وازداد معها الفقر والجوع والبؤس.
وقد استغل اليابانيون ضعف الصين ليطالبوا الجمهورية الجديدة بالأراضي وغيرها من المطالب، ولكن في عام 1919 حدثت أول حركة جماهيرية واسعة لتأييد استقلال الصين عن التدخل الخارجي وسميت حركة الرابع من أيار/مايو على اسم اليوم الذي ابتدأت فيه، وقد أدت إلى مقاطعة البضائع اليابانية، وإلى شجب واستنكار عنيفين للطريقة التي عوملت بها الصين في معاهدات السلام، التي منحت أراضي ألمانية سابقة في إقليم شان تونغ لليابان.
كان قادة الصين منقسمين، فكان بعضهم يتطلع إلى الماركسية وإلى موسكو للإلهام والمساعدة، وقد تأسس حزب شيوعي صيني في عام 1921، إلا أن مهاجمة الرأسمالية أثارت المصاعب، لأن الكثيرين من الرأسماليين وأصحاب الأراضي في الصين كانوا يؤيدون حزب كوميتانغ الوطن الساعي نحو الإصلاح والتحديث.
أثناء حياة الرئيس الأول للجمهورية سون ياتسن كان الحزبان الشيوعي والكوميتانغ يتعاونون كل منهما مع الآخر، وقد تمكنا من كسب المزيد من التنازلات من الأجانب، خاصة من البريطانيين، وكان الروس يراقبون هذه التطورات باستحسان.
ولكن بعد موته في عام 1925 قرر حزب الكوميتانغ أن يقضي على خطر خصومه، وقد تم القضاء على الشيوعيين في المدن بعد مجازر كبيرة، إلا أنهم ظلوا متحصنين في الريف حيث كانوا يحظون بدعم الفلاحين، ونظموا في عام 1930 في مقاطعة كيانغ سي الجنوبية جيشاً وقالوا أنهم يحكمون خمسين مليون إنسان. فقرر حزب الكوميتانغ تدمير معقلهم هذا، وأكرهت هجماته في عام 1934 الجيش الشيوعي على أن يبدأ في تشرين الأول/أكتوبر مسيراً طويلاً، من أجل الحفاظ على نفسه.
فانطلق حوالي 100.000 جندي بينهم كثيرون مع عائلاتهم من إقليم كيانغ سي عبر الأرياف الجبلية، وانضمت إليهم وحدات شيوعية أخرى متفرقة، فوصلوا في عام 1936 إلى إقليم شن سي في الشمال، وهي منطقة يتعذر حصارها، وكان فلاحوها خاضعين لقمع وحشي وأكثر استعداداً حتى من الجنوب لدعم الشيوعيين، لذلك لم يكسب حزب الكوميتانغ الحرب الأهلية، مع أنه طرد الشيوعيين من الجنوب، لأن جيشهم قد نجا ولو تقلص حجمه تقلصاً رهيباً بنهاية المسير الطويل، ومن هنا أتت الملحمة الشهيرة للثورة الصينية.
لقد شعر اليابانيون أيضاً بالظلم من نتائج السلام، فرغم أنهم كسبوا من خلاله أراضي كثيرة فهم لن يحصلوا على إعلان مؤيد للمساواة العرقية في ميثاق عصبة الأمم كما كانوا يأملون، وشعروا بأنهم عوملوا معاملة دونية.
وكانت انتصارات اليابان على روسيا في حرب 1904-1905 وقوتها أيضاً مصادر وحي وإلهام لقادتها، وكانت تمتلك ثالث أكبر سلاح بحرية في العالم في عام 1918 وكانت في عام 1929 قد أحرزت خلال عشرين سنة ارتفاعاً في إنتاج الفولاذ بمقدار عشرة أمثال، وفي إنتاج الأقمشة بمقدار ثلاثة أمثال، وفي إنتاج الفحم بمقدار مثلين. ولكنها كانت بحاجة ماسة للأسواق الخارجية من أجل إطعام سكانها الذي ارتفع عددهم من خمسة وأربعين إلى ستين مليون منذ عام 1900، وكانت هذه الأسواق في آسيا بشكل أساسي وقد انهارت أثناء الكساد العالمي.
ففي عام 1931 كانت نصف مصانع اليابان متوقفة عن العمل وكان الملايين معدمين، ورأى بعض المتطرفين أن القوى العظمى الأخرى كانت في حال من التشويش والفوضى، وأنها لن تقدر على مقاومة اليابان إذا قامت بجهود حثيثة لتضمن أسواقها في الصين. ولكن إذا أرادت اليابان أن تكون القوة المهيمنة في آسيا، فيجب عليها أن تتحرك بسرعة، وقبل أن يتمكن حزب الكوميتانغ من إعادة بناء استقلال الصين.
في عام 1931 كانت الحكومة الصينية على وشك إعادة تثبيت مطالبها القديمة في منشوريا، حيث كان لليابانيين استثمارات كبيرة منذ أن انسحب منها الروس في عام 1905، ونظم المسؤولون اليابانيون المحليون اصطداماً مع الجنود الصينيين اتخذوه ذريعة لاحتلال المقاطعة بأسرها. ونشأت دولة جديدة هي دولة منشوكو التي كانت ألعوبة بيد اليابانيين، ثم حدث المزيد من الاقتتال، وفي عام 1933 عبرت القوات اليابانية سور الصين واحتلت للمرة الأولى جزءاً من أرض الصين التاريخية.
ثم عاودوا الهجوم في عام 1937 وبدأ بذلك ماسموه حادثة الصين وثماني سنوات من الصراع، وكانت هذه هي إحدى النواحي بداية الحرب العالمية الثانية. أما القوى الغربية فكانت مشغولة بأمور أخرى ولم تكن قادرة على التدخل. وفي عام 1941 كانت الصين معزولة عن العالم الخارجي، ولكن ذلك الهجوم عليها قد جعل حزب الكوميتانغ والحزب الشيوعي ينضمان معاً في تحالف جديد ضد اليابانيين.
وهكذا كسبت اليابان سباقها مع الصين في سبيل التحديث والسيطرة في شرق آسيا، إلا أن جهودها لكسب الحرب كانت تتطلب المزيد والمزيد من الموارد الاقتصادية، وقد اقتضى هذا على المدى البعيد أن توسع صراعها إذا هي أرادت أن تضمن النفط والثروات المعدنية التي تحتاجها.