كانت نقطة الضعف الأساسية في بيزنطة هي حاجتها الدائمة لمحاربة أعداء أشداء على أكثر من جبهة واحدة في الوقت نفسه، فبعد أن صارعت العرب ونجت منهم حل محلهم غزاة مسلمون جدد أهمهم الأتراك، كما اضطرت من بعدهم لمعالجة أمر الأفار والبلغار والفاريغ في الشمال والشمال الشرقي، صحيح أن الغرب المسيحي كان وراءها، إلا أنه كان في الحقيقة يزداد انفصالاً عن الأرثوذوكسية الشرقية، بل كان يبدو في بعض الأحيان وكأنه عدو آخر لها. وفي عام 800 م توج البابا في الغرب الملك شارلمان إمبراطوراً، ولم يرق هذا التتويج لبيزنطة لأن اتخاذ لقب الإمبراطور تحدياً لها كوريثة حقيقية لروما، ومنذ ذلك الحين صار الإداريون البيزنطيون يسمون الغربيون جميعاً " إفرنجاً" لأن شارلمان كان ملكاً على الإفرنج، بل إن هذا الاسم ظل يطلق على الأوروبيون في الشرق الأدنى وقسم كبير من آسيا حتى القرن العشرين، حيث لم يعد الناس يميزون بين الإيطاليين أو الإسبان أو الألمان، مثلما كان الأوروبيون يخلطون بين الفروع المختلفة من الأتراك. وقد حاول الإفرنج واليونانيون أن يتعاونوا مع بعضهم ضد العرب، ولكن هذه المحاولة إنما زادت الخلافات فيما بينهم، ثم إن البيزنطيين كانت لهم ادعاءات قديمة في إيطاليا، كما وأن وصول النورمان إلى صقلية ومحاولتهم الاستيلاء على أجزاء من اليونان تنتمي للإمبراطورية قد سبب صراعاً صريحاً بين الشرق والغرب. وكانت بيزنطة تزداد ضعفاً ومواردها تتقلص منذ القرن الحادي عشر وكانت النخب الحاكمة البيزنطية تزول لتحل محلها عائلات أرستقراطية من الأناضول وأرمينيا، وقد زاد هذا من عمق الهوة الثقافية بين الحضارتين الشرقية والغربية.
لقد حلت بالإمبراطورية البيزنطية ضربة مدمرة في عام 1072 عندما مزق الأتراك جيشها في معركة مانتزيكرت – ملازكرت فضاعت منها آسيا الصغرى التي كانت أهم مورد لجنودها وأغنى مقاطعاتها؛ ورغم أنها استعادت شيئاً يسيراً من أراضيها بعد هجمات المغول على الأتراك فقد صارت منذ ذلك الحين محصورة بشريط ضيق من الأرض. وفوق هذا كان على الإمبراطورية البيزنطية أن تواجه خطرين جديدين قادمين من الغرب، أحد هذين الخطرين هو جمهورية البندقية الإيطالية –فينيسيا- التي كانت تابعة لها في السابق، فقد كان البنادقة قد ساعدوا البيزنطيين في صد النورمان عن اليونان، فسمح لهم بالمقابل أن يتاجروا بحرية في كافة أنحاء الإمبراطورية كرعايا لها لا كأجانب، ولكن البيزنطيين بهذا العمل قد جلبوا الدب إلى كرمهم، لأن البنادقة احتكروا بمرور الزمن تجارة أوروبا مع بيزنطة، وسرعان ما فاقت قوتهم البحرية قوة بيزنطة نفسها، وخاصة بعد أن هزموا أسطولاً مصرياً فأزاحوا بذلك القوة الوحيدة التي كانت توازن قوتهم، وبعد تلك التنازلات التجارية كسب البنادقة أراضي جديدة بل إنهم خاضوا حرباً ضد بيزنطة ، وفي القرن الثالث عشر صارت البندقية إمبراطورية وسوف تزداد اتساعاً، وتضم إليها عشرات الجزر والموانئ خلال القرون الثلاثة التالية.
جنكيز خان
لقد سبب المغول للإسلام أكبر كارثة عرفها في تاريخه، وهم نشأوا بالأصل من الأراضي الواقعة إلى الشمال من الصين والتي تسمى اليوم منغوليا على اسمهم. في تسعينيات القرن الثاني عشر كان أحد شباب المغول قد أصبح خاناً على شعبه، ثم راح يسعى للانتقام من إهانات حلت بهم على يد التتار، وهو شعب بدوي آخر، وخلال سنوات قليلة قبلت به كافة قبائل المغول "خاناً عاماً" عليها أو كما تسميه بلغتها "تشنكيز خان” ثم حرف العرب اسمه هذا فصار جنكيز خان. كان جنكيز أكبر فاتح عرفه التاريخ، وقد أرهب أوروبا وآسيا معاً، وكانت الدولة التي بناها أقرب إلى الإمبراطورية الحقيقية من أية دولة بناها زعيم بدوي آخر، ولو أن عاصمتها الوحيدة كانت خيام اللباد في معسكره.
لقد بدأ جنكيز بالسيطرة على قوة عظمى عندما استولى على شمال الصين في عام 1215، ثم مالبث أن وجه اهتمامه نحو الغرب، وكان المغول وثنيين ولم يكونوا لا مسلمين ولا مسيحيين، لذلك لم يميز جنكيز في اختيار ضحاياه. وكانت أولى الضحايا هي الأراضي الإسلامية الشمالية في إيران ومدن الواحات الغنية فيما وراء نهر جيحون، وكان الناس إذا قاوموهم يقتلون في مذابح جماعية، لذلك صارت الشعوب التي تعرف ما ينتظرها تستسلم دون قتال، وكان المغول عندئذٍ يبقون على حياتهم، وبعد زمن قصير غزا جنكيز جنوب روسيا، وفرض الجزية على الأمراء المسيحيين هناك. وعندما مات خلفه ابنه، الذي سرعان ما تحول اهتمامه إلى الغرب أيضاً، فنهب المغول مدينة كييف في عام 1236 م، وقاموا من هناك بغارات بعيدة في عمق أوروبا، فخربوا بولندا ومورافيا وطاردوا ملك هنغاريا المسكين عبر كرواتيا حتى ألبانيا قبل أن يتوقفوا عن ملاحقته. ولم يعودوا إلى وطنهم إلا عندما مات الخان وصار لابد من اختيار خان جديد، وقد كان في الحاضرين بين انتخابه رسول بابوي وسلطان سلجوقي وأمير روسي ومبعوث من قبل الخليفة العباسي.
وما إن استقرت الشؤون الداخلية للمغول حتى هجمت جيوشهم على الإسلام من جديد، فهزموا أولا سلاجقة الروم، ثم تحولوا إلى ما بقي من الخلافة العباسية فاكتسحوا بغداد ونهبوها، ولما كانوا يؤمنون بخرافة تحرم سفك دم الخليفة فقد لفوا الرجل المسكين وهو آخر الخلفاء العباسيين في سجادة وداسوا عليه بالخيل حتى مات. ثم اندفعوا إلى سوريا، وبدا مصير الإسلام على كف عفريت، إلا أنهم هزموا أخيراً على يد مماليك مصر قرب الناصرة في عام 1260، وبهذا أنقذ الإسلام، ولكن سوف تكون للمغول سيطرة طويلة على جزء كبير من آسيا وروسيا من بعد.
إمبراطورية جينكيزخان في الربع الأول من القرن الثالث عشر
وتفككت إمبراطورية جنكيز خان الموحدة وحلت محلها مجموعة من الخانيات التي ترتبط فيما بينها بروابط فضفاضة والتي يحكم كلا منها أمير مغولي مستقل، ولكنها كانت تشترك أيضاً بأشياء كثيرة فيما بينها، وكان هذا التحالف المغولي يشمل في أوسع امتداد له سدس مساحة العالم القديم تقريبا. كانت وسائل الاتصال فيه حسنة وكذلك شرطته، وقد عرف المغول أن يستفيدوا من رعاياهم المهزومين بطريقة ذكية، فجندوهم في جيوشهم كما استخدم جنكيز الموظفين المدنيين الصينيين لإدارة نظام الضرائب واستعار الكتابة التركية لتدوين اللغة المنغولية، وكان هذا الأمر على أهمية كبرى في تشكيل أفكار المغول. سوف نتحدث عن الصين المغولية في موضع آخر، ولكن نذكر هنا أن الخانات الكبار صاروا يعتبرون أنفسهم مثل أباطرة الصين، فكانوا يتوقعون من الشعوب الأخرى أن تدفع لهم الجزية لا أن تفاوضهم كأنداد لهم، وكانوا يؤمنون أنهم يمارسون سلطة ملكية عالمية بالنيابة عن إلههم إله السماء. إلا أنهم كانوا في الوقت نفسه متسامحين في أمور الدين، وقد أعجب المسيحيين بتنوع المعتقدات في بلاط المغول، وقيل إن أحد الخانات كان على وشك أن يتعمد إلا أن هذا الأمر لم يتم.
عند نهاية القرن الثالث عشر حدث تغير هام عندما أسلم الخان الذي يحكم فارس، فزال عندها الخطر عن الإسلام، وصار جميع الحكام الفرس منذ ذلك الحين مسلمين. وقد عاد السلام وبعض الازدهار إلى أراضي الإسلام القديمة رويداً رويداً، ولم يبعث رعب المغول من جديد إلا مرة واحدة على عهد فاتح لا يقل رعباً عن جنكيز هو تيمورلنك، الذي امتزج فيه الدم التركي بالدم المغولي. لقد اكتسح تيمور فارس في عام 1379 بعد أرقتها سلسلة من النزاعات والصراعات الأهلية، إذ كان قبلاي خان أي الخان الكبير قد مات عند نهاية القرن السابق، ولم يعين عندها سيد على جميع المغول، كما خرب تيمو الهند ونهب دلهي في هجوم خاطف، وقيل إن سبب تلك السرعة العجيبة كانت رغبة جيشه بالهرب من رائحة النتن المنبعثة من أكوام الجثث التي خلفها وراءه، وحارب الخانات الآخرين ودمر بلاد المماليك والأتراك وفتح بلاد الرافدين. إلا أنه لم يبن إمبراطورية ولم تستمر فتوحاته من بعده، وإذا كان له تأثير هام في التاريخ فهو تأثير غير مقصود إذ إن هجماته قد عطلت لعقود من الزمن شعباً تركياً في الأناضول هو الشعب العثماني ومنعته من الانقضاض على الإمبراطورية البيزنطية والإجهاز عليها.