منذ القرن التاسع عشر تعامل فكرة الأمة والقومية بقدر كبير من التبجيل والتوقير، ولم تكن هذه بالفكرة الجديدة، فأنت تجد في مسرحيات شكسبير إشارات كثيرة إلى شعور الإنكليز بقوميتهم وافتخارهم بها، كما تجد علامات كثيرة على أن الناس منذ زمن بعيد كانوا يحبون أن يعتبروا أنفسهم فرنسيين أو إسباناً.
ولكن هذه المشاعر صارت أكثر اتساعاً بكثير خلال القرنين الماضيين، والأهم من ذلك أن الناس بدؤوا يشعرون أن انتماءهم إلى قومية معينة يقتضي أن يحكمهم أشخاص من هذه الأمة نفسها، أي أن الدولة والأمة يجب أن تكونا شيئاً واحداً، أو وجهين مختلفين لعملة واحدة.
وهذه هي الفكرة السياسية التي تسمى القومية، وهي تقول أن الأمة هي الأساس الشرعي الوحيد لقيام الحكم، وقد سببت هذه الفكرة قدراً كبيراً من المعاناة والعنف، مثل أكثر المفاهيم العامة حول كيفية تنظيم الحكومات. فما الذي يبرر أن تكون حكومة ظالمة أو فاسدة من أهل أمتك أفضل أخلاقياً من حكومة أجنبية عادلة وخيرة؟ إلا أن نجاحات فكرة القومية وتأثيراتها الثورية كانت ومازالت أكبر من أي فكرة سياسية أخرى، وقد بدلت خلال القرنين الماضيين خريطة العالم وحياة مئات الملايين من الناس.
ونعود إلى الثورة الفرنسية من جديد لأنها كانت معلماً هاماً في تطور هذه الفكرة، لقد كان الثوار الفرنسيون يضربون دائماً على وتر القومية وحقوق القومية، وكانت الأمة في نظرهم ذات سيادة مطلقة لاتعلو عليها أي سيادة. ولم يتراجع أي نظام فرنسي فيما بعد عن هذا المبدأ، بل كان دعاة الثورة يبشرون به للمتعاطفين معهم في البلاد الأخرى.
ومن ناحية أخرى أدت الثورة الفرنسية إلى حوالي ربع قرن من الحروب شبه المستمرة، فنتجت عن ذلك انقلابات كبيرة وتبدلات في الحدود وإطاحة بالقادة القدماء وتنصيب لقادة جدد واجتثاث المؤسسات القديمة، فكانت هذه كلها فرصاً كبيرة جعلت الناس يفكرون بوضع ترتيبات جديدة على أساس مبدأ القومية.
وهكذا فإن البولنديين مثلاً، بعد أن زالت دولتهم المستقلة في تقسيمات القرن الثامن عشر، بدؤوا يأملون في أن يعيد لهم نابليون حريتهم، ولكنه لم يعدها لهم، ولو أنه أسس صورة هزيلة عن الدولة البولندية القديمة سماها غرندوقية وارسو، إلا أن استحواذ هذا الأمل عليهم كان ذا أهمية كبيرة في إبقاء الشعور القومي البولندي حياً ومتقداً.
وفي إيطاليا راحت الجيوش الفرنسية منذ عام 1796 فما بعد تقلب الحكومات الواحدة تلو الأخرى، فكان البعض يرونهم مخلصين محررين والبعض الآخر يرونهم في أحيان أخرى مضطهدين ظالمين، إلا أن بعض أهل شبه الجزيرة بدؤوا يعتبرون أنفسهم للمرة الأولى إيطاليين، بدلاً من شعورهم السابق بأنهم أبناء روما أو ميلانو أو البندقية أو غيرها، وهكذا راحوا يسعون لإيجاد طرق لتوحيد فسيفساء الدول الإيطالية القديمة تحت حكومة وطنية، كما حدثت تطورات مشابهة في بلاد أخرى أيضاً.
لقد أرقت هذه التطورات حكام أوروبا كثيراً بعد زوال نابوليون من مسرح الأحداث بنفيه وموته وحيداً في جزيرة سانت هيلينا، ولم تعد للظهور جميع الحكومات التي أطيح بها خلال العشرين سنة الماضية. فجمهورية البندقية القديمة، التي كانت على أهمية كبيرة في تاريخ أوروبا طوال مئات السنين استمرت حتى عام 1796 ولم تعد للحياة في عام 1815، بل انتقلت أراضيها السابقة عندئذٍ إلى حكم النمسا. وكذلك زال عدد من الأمراء الحاكمين في ألمانيا وانتقلت أراضيهم إلى أيدي أمراء آخرين أكبر منهم وأوفر حظاً.
إلا أن معظم الملوك قد عادوا، وقد أظهر بعضهم بوضوح بأنهم راغبون بإرجاع الساعة إلى الوراء وإعادة الأمور إلى سابق عهدها، بينما كان بعضهم الآخر أكثر حكمة فقدموا التنازلات للأفكار الجديدة، مثل ملك فرنسا من سلالة بوربون الذي لم يحاول العودة إلى النظام القديم بل قبل بالدستور.
وقد حاول مؤتمر فيينا الذي انعقد للاتفاق على شروط الصلح في عام 1815، أن يخفف من خطر الثورة، فأعطى أجزاء من الدول التي كانت مستقلة في إيطاليا للنمساويين، وكان يفترض بحكام الهابسبرغ أن يضبطوا الأمن في شبه الجزيرة الإيطالية ويحافظوا على الهدوء فيها. وكان هذا تعارضاً صارخاً مع المبدأ القومي لأنه إذا كان من الواجب أن تحكم الأمة نفسها بنفسها، فليس هناك من مبرر لأن يحكم النمساويون الإيطاليين أو البولنديين أو الهنغاريين أو البوهيميين أو السلوفاك أو الروثينيين* أو غيرهم من الشعوب الكثيرة التي كانت خاضعة لفيينا. وليس هناك مبرر لأن يحكم الروس البولنديين والدنمركيين أيضاً.
أي أن مفهوم القومية كان خطيراً بشكل خاص على الدول الثلاث في أوروبا الشرقية التي كانت أساس النظام المحافظ بعد عام 1815، أما فرنسا فلم تكن فيها مشكلة قومية، وكانت إنكلترا تدعي منذ زمن طويل أن ليس فيها شيء من هذا أيضاً، مع أن ايرلندا كانت في الحقيقة قضية قومية.
لقد اعتنت الدول الأوروبية عناية كبيرة بأمور الأمن والتعاون الدبلوماسي فيما بينها، وكانت مستعدة للضرب بلا رحمة إذا اقتضى الأمر، فساهمت هذه الأمور في الحفاظ على السلام في أوروبا بين عامي 1815 و 1848، وكانت تلك أطول مرحلة خالية من الحروب بين القوى العظمى عرفتها القارة منذ قرون عديدة ولم تنجح الحركة القومية في هذه المرحلة إلا مرتين أولاً في عشرينيات القرن التاسع عشر عندما أدت الثورة في الشطر الأوروبي من الإمبراطورية العثمانية إلى ظهور دولة اليونان المستقلة، ثم في عام 1830 عندما أطاح البلجيكيون بحكم الهولنديين الذي كان مفروضاً عليهم منذ عام 1815.
ثم أتت ثورات عام 1848، وكانت القومية فيها متداخلة تداخلاً عميقاً بقضايا أخرى، ففي إيطاليا كان الراغبون بحكومة دستورية يعلمون أنهم لن يحصلوا عليها إلا إذا توقف النمساويون عن التدخل في شؤونهم، وأنهم لن يتوقفوا عن ذلك إلا عن طريق القوة. لهذا كان الليبراليون في مدن إيطاليا المختلفة ينضمون بعضهم إلى بعض في محاولاتهم لتنظيم المقاومة الوطنية سواء تعاطفوا مع الراديكاليين أم لم يتعاطفوا. وكان هذا تأكيداً على أفكار من يعتبرون أن الهدف من الثورة هو صنع أمة ولا يعبأون لا بالليبرالية ولا بالدستورية، مثل المتآمر الحماس ماتزيني.
أما الألمان فيبدو أنهم كانوا أكثر من الإيطاليين حماسة لوحدة تجمعهم وتسمو على التقسيمات السياسية التي مازالت تفرق بينهم تحت حكومات مختلفة. ولكن قضية الوحدة الألمانية جعلت الليبراليين الألمان بالضرورة معارضين لمطالب الوطنيين والتشيك والبولنديين القاطنين ضمن الأراضي الخاضعة لحكم الألمان، وإن الخوف من الحكم الذاتي في بوهيميا وبوزنان* قد دفع الليبراليين الألمان في النهاية للاعتماد على جيوش الملوك خاصة ملوك بروسيا، ولما كان الملوك يكرهون الدساتير والمبادئ التحررية فقد أدى هذا في النهاية إلى التضحية بالليبرالية من أجل القومية.
كانت أكثر الملكيات عرضة للخطر في عام 1848 هي بلا ريب ملكية النمسا، لأنها كانت حكم أكبر خليط متشابك من الشعوب في أوروبا، وكان الإمبراطور الشاب فرانتز جوزف قد ارتقى العرش في ذلك العام ولكن الثوار مالبثوا أن انتزعوا منه عاصمته فيينا، عدا عن أنه واجه الثورات المسلحة في هنغاريا وبوهيميا وسلوفاكيا وطردت جيوشه طرداً كاملاً تقريباً من إيطاليا، وقد بدا أن لامفر للملكية القديمة من الانهيار الكامل، ولم تنج من هذا المصر إلا لأن القوميين الثوريين قد اقتتلوا فيما بينهم ولأن روسيا هبت لنجدة الإمبراطور.
وكانت روسيا هي الدولة الوحيدة بين القوى المحافظة الكبرى التي لم تزعزعها الثورة، فلم تعرف بطرسبرغ أي ثورة في عام 1848، مثلها مثل العواصم الأخرى على أطراف أوروبا، كلندن ومدريد واستانبول، لهذا تمكن الجيش الروسي من إعادة النظام القديم إلى أوروبا الوسطى مع انحسار التيار الثوري، وقد تم هذا الأمر في عام 1849، فقبل أن ينقضي هذا العام كانت جميع الأنظمة قبل الثورية قد عادت إلى مواقعها، وكان الاستثناء الأساسي هو فرنسا، حيث حلت الجمهورية الثانية الجديدة محل الملكية الدستورية، وكان رئيسها يحمل اسماً مثقلاً بالشؤم هو لويس نابوليون بونابرت.
* روثينيا منطقة في أوكرانيا
* مدينة بولندية