كانت إنجازات هتلر الدائمة إنجازات هدامة كلها، فقد قاد ألمانيا في طريق انتهت بتحطيم وحدتها القومية التي حققها لها بسمارك، كما سلمت أوروبا الشرقية كلها تقريباً للروس الذي كان يحتقرهم وتحت حكم البلاشفة الذي كان يبغضهم. وهلك الملايين في أثناء هذه العملية في حرب عالمية ثانية لم ينج منها الألمان أنفسهم. إلا أن سياسته الخارجية حققت في البداية نجاحات هائلة.
لقد سعى هتلر لإبطال معاهدة فرساي وكسب الأراضي لألمانيا في الشرق على حساب الشعوب السلافية التي كان يعتبرها شعوباً متدنية، وساعدته الظروف في ذلك، لأن آخر قوات الحلفاء المحتلة كانت قد غادرت ألمانيا في عام 1930، وانهارت التعويضات أخيراً مع الانهيار الاقتصادي.
والأهم من هذا أن الدول الأخرى ظلت لزمن طويل غير راغبة بمقاومة مطالبه، فكان الكثيرون خاصة في إنكلترا يرون شروط الصلح قاسية للغاية ويشعرون بتأنيب الضمير نحوها، والأهم من هذا وذاك أن ذكريات الحرب الكبرى الفظيعة جعلت الناس مستعدين لتقديم أية تنازلات من أجل تجنب نشوب صراع مماثل، كما أن البعض كانوا يرون في ألمانيا النازية القوية حاجزاً أمام الشيوعية.
أما الأمريكان فكانوا بعد عام 1929 مشغولين تماماً بهمومهم الداخلية، وأما الروس فكانت تقع بينهم وبين هتلر دول أخرى جديدة لابد من كسب مساعدتها إذا أرادت روسيا فعل شيء ضد ألمانيا.
كان موسوليني في البدء حذراً من طموحات هتلر، ولكنه صار في النهاية حليفه فيما سمي بالمحور وقد جعل هذا الوضع فرنسا وبريطانيا تتذكران بمرارة كيف اقتضت هزيمة ألمانيا في الحرب الكبرى أربع سنوات من القتال الدامي والحصار، وكانت روسيا إلى جانبهم في ثلاث منها، فضلاً عن مساعدة الولايات المتحدة أيضاً في النهاية.
لقد تبنى هتلر من توه مطلباً كان من سبقوه قد قدموه، هو أن يحق لألمانيا أن تكون لها قوات مسلحة مثل القوى المنتصرة في عام 1918، فانسحب من عصبة الأمم التي كانت تحاول الترويج لنزع السلاح، وأعاد التجنيد الإلزامي في عام 1935، وكان هذا خرقاً واضحاً لمعاهدة فرساي، وأعلن أن لديه سلاح جو. ثم قضى على تسوية فرساي المتعلقة بالأراضي، فتحرك الجنود الألمان في آذار/مارس 1936 إلى حوض الراين، وهي الأراضي الألمانية التي كان محرماً على ألمانيا أن تضع جنوداً فيها أو تبني تحصينات، ولم ترد فرنسا وبريطانيا على ذلك وفي الوقت نفسه قال هتلر أنه لن يلتزم بعد الآن بالحدود المتفق عليها في الغرب والتي قبلتها الحكومات الألمانية السابقة على عهد جمهورية فايمار. ولم تحرك عصبة الأمم ساكناً لكبح هذه الأعمال العدوانية، ولكن البريطانيين والفرنسيين أخذوا يحسنون تسليحهم بصورة أسرع.
وقد سبب اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا في عام 1936 مشكلة أخرى، فقد كان الألمان والإيطاليون يساندون أحد الطرفين فيها، وكان الروس يساندون الطرف الآخر، ورأى الكثير من الناس أن الموضوع ليس إلا صراعاً إيديولوجياً؛ وكان هناك مؤيدون لكل من الطرفين في الديمقراطيات، ولكن هذا الانقسام الشديد في الرأي العام أعاق الحكومتين الفرنسية والبريطانية في تعاملهما مع قوى المحور.
وكانت لديهما مشاكل أخرى أيضاً مثل مشكلة الاتحاد السوفييتي، فصحيح أن ستالين قد يساعدهم ضد هتلر، إلا أنه لايقدر على ذلك إلا بعبور أراضي بولندا وهي حليفة لفرنسا، وكان البعض يتساءلون كيف يمكن وضع الثقة بروسيا وهي تقوم بإعدام نصف أفراد أركانها العامة؟ ثم أنه كانت هناك مشاكل أخرى في بقاع أبعد، خاصة مشكلة التقدم الخطر لليابانيين في الشرق الأقصى.
لقد جلب عام 1938 لهتلر، المزيد من النجاح؛ ففي آذار/مارس تم توحيد النمسا وألمانيا، واستطاع الاستفتاء العام أن يسكت منتقدي هذا الخرق لمعاهدة فرساي، ولم يسمع احتجاج كثير في فرنسا وبريطانيا مع أن الأراضي الألمانية صارت الآن تطوق تشيكوسلوفاكيا، وهي دولة تحوي ثلاثة ملايين ألماني.
وقرر هتلر استخدام الحقوق القومية وهو نداء كان يسمع كثيراً أثناء معاهدة فرساي قبل ذلك بتسع عشرة سنة، فطلب حق تقرير المصير لألمان السوديت كما كانوا يسمون في منطقة جبلية شمال شرقي بوهيميا، واستطاع خلال أسابيع من المفاوضات أن يحصل على أكثر من هذا، لأن البريطانيين والفرنسيين كانوا يخشون أن يضطروا للقتال من أجل تشيكوسلوفاكيا، وكانوا يعتقدون أن آخر عيوب تسوية فرساي يمكن إصلاحها عن طريق القبول بمطالبه، فقبلوا في اجتماع عقد في ميونيخ بتحويل مساحات شاسعة من تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا.
وقد أعاق هذا التصرف الدولة الديمقراطية الوحيدة في أوروبا الوسطى التي كانت أيضاُ حليفتهم الحقيقية الوحيدة، كما أنه كان إهانة للروس لأنهم لم يستشاروا في هذا الأمر. واقتنع الألمان عندئذٍ أن هتلر رجل يجترح المعجزات ويمكن السير وراءه بثقة عمياء، أما هو فقد استنتج أن الديمقراطيات تتراجع دوماً أمام التهديد بالحرب.
كانت ميونيخ ذروة تلك السياسة التي سميت سياسة الاسترضاء أي تلبية المظالم الألمانية التي اعتبرت مظالم معقولة. ولكن عندما استولى هتلر على ما بقي من تشيكوسلوفاكيا في آذار/مارس التالي بحجة أن الجمهورية قد انهارت، حصل اشمئزاز كبير في بريطانيا، وأدخلت الحكومة التجنيد الإلزامي في وقت السلم للمرة الأولى في تاريخ بريطانيا، وقدمت ضمانات للعديد من دول أوروبا الشرقية بحمايتها من العدوان ومنها بولندا.
وكان الكثير من الألمان يريدون أن يستعيدوا من بولندا أراضيها الألمانية السابقة، خاصة الممر الذي يصل الجمهورية بالبحر ويفصل ألمانيا عن شرق بروسيا وعن مدينة دانتزيغ (غدانسك) الألمانية التاريخية؛ التي كانت منذ عام 1919 مدينة حرة تحت حكم عصبة الأمم.
وقد رحب البولنديون بضمانات بريطانيا ولكنهم أعلنوا عن رفضهم القاطع للسماح لقوات سوفييتية الدخول من أراضيهم. وجعل هذا الوضع التعاون العسكري بين بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي أمراً مستحيلاً ، فرأى ستالين عندئذٍ أنه يستطيع عقد صفقة أفضل مع هتلر، ولما كان يشارك ألمانيا استياءها من حدود بولندا فقد عقد في آب/أغسطس 1939 معاهدة مع النظام النازي، وبدأت الحرب في الأول من أيلول / سبتمبر عندما قامت ألمانيا بغزو بولندا.