كانت الحياة في عهد الاتحاد السوفييتي حياة قاسية، كان الألمان قد انتزعوا شروط صلح وحشية، وكان الاقتتال خلال الحرب الأهلية شرساً، فارتكبت الفظائع ودمر المزيد من الموارد الاقتصادية الهزيلة للبلاد. وقد حاولت بعض أجزاء الإمبراطورية القيصرية السابقة أن تنفصل عن النظام الجديد، فنجحت بعضها مثل فنلندا ومقاطعات البلطيق، وفشلت بعضها الآخر مثل أوكرانيا، وأدت مصادرة الطعام من الفلاحين من أجل إطعام المدن إلى المزيد من المقاومة للنظام، وبالتالي إلى قمع أشد وحشية، وإن بعض الذين أيدوا البلاشفة في البداية قد انقلبوا ضدهم، ونشبت في عام 1921 في قاعدة كرونستات البحرية الكبيرة ثورة للملاحين طالبوا فيها الانتخابات الديمقراطية وحرية الكلام والصحافة وتحرير جميع السجناء السياسيين، ولكنها قمعت بلا رحمة.
وكانت تلك أياماً عصيبة، ففي عام 1921 كانت نصف الأراضي المنتجة للحبوب في روسيا لاتنتج شيئاً، وحصلت مجاعة رهيبة اكتسحت قسماً كبيراً من جنوب البلاد إذ حل بها الجفاف، فمات الملايين وصار الناجون يلجأون إلى أكل القش من سقوف البيوت وجلود عدة الفرس بل حتى لحوم البشر.
وقرر لينين ضرورة تقديم تنازلات، فمنح المنتجون حرية أكبر في أخذ بضائعهم للسوق وبيعها بالأسعار المتداولة فيها، ولم يعجب هذا الأمر الشيوعيين المتشددين ولكنه كان خطوة ناجحة. وراحت البلاد تستعيد عافيتها شيئاً فشيئاً، مع أن الإنتاج الصناعي والزراعي لم يرتفع إلى مستوى عام 1913 حتى عام 1928.
وحتى في ذلك الحين كانت روسيا الجديدة أقل قوة بكثير مما كانت عليه في أيام القياصرة في عام 1914، وظلت قاعدتها الاقتصادية والتقنية هزيلة جداً رغم قوتها العسكرية الكبيرة من ناحية العدد، ولكن تغيراً هائلاً كان قد بدأ، وعادت روسيا من جديد إلى طريق التحديث التي استهلته على عهد القياصرة.
لقد أعطت الثورة روسيا حكاماً كانوا متوحشين في نظر الغرب، ولكنهم كانوا واثقين ثقة عمياء بأن التاريخ إلى جانبهم وبأن القضية الاشتراكية التي يشكلون طليعتها كان من المحتم أن تنتصر في كافة أنحاء العالم. وقدمت هذه العقيدة على أنها التفسير الصحيح لتعاليم كارل ماركس، فكانت أسطورة قوية تبث الشجاعة في النفوس.
أما الروس غير الشيوعيين فكانوا يشعرون هم أيضاً أن ما يقومون به هو لمصلحة وطنهم ذي الإمكانيات الهائلة، لقد انتصرت الثورة في بلد تعاني من التخلف والفقر، ولم تكن هذه الحقيقة متفقة مع التنبؤات الماركسية، ولكنها قد تصبح أساس واحدة من أعظم القوى على سطح الأرض.
انحسار الثورة
كانت الثورة الروسية واستيلاء البلاشفة على السلطة حدثين هامين في تاريخ العالم، في عام 1919 تأسست في موسكو المنظمة الاشتراكية الدولية الثالثة، التي سرعان ما عرفت باسم كومينترن COMintern* ، وكان هدفها تنظيم الأحزاب الشيوعية دولياً، وكانت قد ظهرت في جميع الدول التي ألقي فيها اللوم على الأحزاب الاشتراكية السابقة لأنها أولاً فشلت في تجنب حرب 1914 ثم لم تشجع على الثورة بعد ذلك.
وكان محك الاشتراكية الحقة عند لينين هو الالتزام با COMintern، وهكذا سرعان ما انقسم الاشتراكيون الماركسيون في كل بلد إلى معسكرين، يضم أحدهما الأحزاب المسماة عادة أحزاباً شيوعية، وهي تتطلع إلى توجيهات موسكو، كما أنها صارت من الناحية العملية أدوات السياسة السوفييتية الدولية.
وكان أولئك الشيوعيون يشجبون شجباً شديداً ويحاربون الاشتراكيين الآخرين الذين بقوا في الأحزاب الاشتراكية السابقة، والذين كان الكثيرون منهم مخلصين مثلهم في قولهم أنهم ماركسيون، وهكذا حكم على اليسار الأوروبي أن يبقى منقسماً لعقود عديدة.
لقد سبب خطر الثورة الجديد هذا الرعب لدى البعض من غير الماركسيين، ولكنه سرعان ماخبا، فقد ظهرت حكومة بلشفية لفترة وجيزة في هنغاريا، كما قام الماركسيون بانقلابات قليلة في ألمانيا نجحت بعضها لفترات قصيرة. ولكن رغم سيطرة الاشتراكيين السياسية على حكومة الجمهورية الجديدة التي ظهرت هناك، فإنها كانت تتطلع إلى القوى المحافظة من أجل منع الثورة، خاصة إلى الجنود المحترفين في الجيش القديم.
والحقيقة أن السياسية الشيوعية جعلت توحيد المقاومة ضد النزعة المحافظة أمراً أشد صعوبة، لأنها أخافت المعتدلين وأبعدت الحلفاء اليساريين المحتملين. وكثيراً ما كان الخطر الاشتراكي في أوروبا الشرقية والوسطى خطراً قومياً في الوقت نفسه، ولم تنته الحرب هناك إلى أن عقدت معاهدة سلام في آذار/مارس 1921 بين روسيا والجمهورية البولندية الجديدة وضعت حدوداً سوف تستمر حتى عام 1939.
لقد كانت بولندا أكثر الدول عداء لروسيا بتقاليدها، وأكثر عداء للبلاشفة بديانتها، كما أنها كانت أكبر الأمم الجديدة وأكثرها طموحاً، ولكن تلك الدول جميعاً كانت تخشى عودة روسيا إلى قوتها السابقة، وقد ساهمت هذه الرابطة في دفع الكثير منها قبل عام 1939 نحو حكومات دكتاتورية أو عسكرية.
* أي المنظمة الشيوعية الدولية