فرثية وفارس
منذ عام 92 ق.م كان جيش روماني قد وصل إلى نهر الفرات، وللمرة الأولى صارت الجمهورية على اتصال مباشر بالفرثيين، وهم شعب سوف يلعب دوراً هاماً في شؤون الرومان طوال القرون الثلاثة التالية. وهذا ما حدث بعد حوالي أربعين سنة عندما غزا جيش روماني بلاد الرافدين، فمحي خلال أسابيع قليلة عن بكرة أبيه في واحدة من أبشع الكوارث العسكرية في التاريخ الروماني، وبات من الواضح أن الفرثيين شعب لا يسهل التدخل في شؤونه. كان الفرثيون شعباً آخر من تلك الشعوب الهندية الأوروبية البدوية الأصل الآتية من آسيا الوسطى، وكانوا مشهورين بطريقتهم في القتال، فكانوا يتظاهرون بالفرار ثم يستديرون بسروجهم لإطلاق السهام نحو من على ظهور الخيل وهي تجري، ومن هنا أتت الرمية الفرثية. وكانوا قد اختاروا الاستقرار في جنوب شرقي بحر قزوين، في منطقة صارت تعبرها بعد ذلك طريق هامة للقوافل من الصين إلى بلاد الشام وهي طريق الحرير، وسوف تجلب هذه الطريق الثروة للملوك الفرثيين في المستقبل. وكانوا يعيشون هناك تحت حكم الفرس أولاً ثم تحت حكم السلوقيين، إلى أن ضاق الحاكم الفرثي المحلي في منتصف القرن الثالث ق.م بحكم الأخيرين وقرر أن يخلع نيرهم، فكانت تلك بداية المملكة الفرثية المستقلة التي سوف تستمر حوالي خمسمائة عام. في إحدى مراحلها في القرن التالي كانت الإمبراطورية الفرثية تمتد من بلخ* في الشرق حتى بابل والفرات الذي يفصلها عن سوريا في الغرب أي كل ما بقي في ذلك الحين من المملكة السلوقية وحتى أباطرة الصين ارتأوا أن يفتتحوا معها علاقات دبلوماسية وربما كان من أسباب ذلك شهرة الخيول الفرثية البديعة التي كان الصينيون يقدرونها أيما تقدير. وكان الملوك الفرثيون يسمون أنفسهم على قطع نقودهم الملك العظيم أو ملك الملوك وهي ألقاب تقليدية لحكام فارس، وكانوا يدعون أنهم ورثة سلطة الأخمينيين. ولكن فرثية لم تكن في أيامها الأولى دولة مركزية منظمة على الأرجح، بل كانت أشبه بتحالف من النبلاء الكبار الذين يأتون بالفرق العسكرية المكونة من أتباعهم ليضموها إلى جيش سيدهم. وعندما واجه الرومان جيشهم كان هذا قوة حربية مخيفة، فعدا عن خيالته رماة السهام المشهورين كان فيه سلاح غير موجود عند الرومان هو سلاح الخيالة المدرعين بدروع ثقيلة، والذين يمتطون خيولاً مغطاة هي أيضاً بدروع ذات زرد.
لقد ظلت روما وفرثية تتنازعان على أرمينيا زمناً طويلاً ، وهي مملكة حدودية إلى الشرق من الأناضول كان كل منهما يعتبرها ضمن مجاله، واستمرت الصراعات سجالاًً بينهما، مرة ينتصر هذا ومرة ذاك، وفي إحدى المرات احتل جيش روماني العاصمة الفرثية، إلا أن الحدود لم تتغير كثيراً. كانت منطقة النزاع هذه بعيدة جداً عن روما، لذلك لم يكن بإمكانها أن تتمسك بفتوحاتها هناك إلا بمجهود كبير ومصاريف باهظة، كما أن مشاكل الملوك الفرثيين في بلادهم كانت تشغلهم وتمنعهم من طرد خطر الرومان من آسيا بشكل كامل. وفي حوالي عام 225 م قتل آخرملك فرثي على يد حاكم فارس الذي كان تابعاً له، وهذا الرجل الذي أطاح به اسمه أردشير وسوف يحيي أحفاده عظمة الأخمينيين وأبهتهم من جديد، ويعيدون السيادة الفارسية إلى قسم كبير من الشرق الأدنى.
كان تلك الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي سميت على اسم ساسان أحد أجداد أردشير والتي سوف تصبح ألد أعداء روما. لقد سعى حكام ساسان للتشديد على استمرارية الماضية، فاتخذوا الألقاب الملكية الفارسية التقليدية والديانة الزردشتية، كما أن أردشير ادعى الحق بكل الأراضي التي كان يحكمها داريوس أعظم الأخمينيين. وكانت تقاليد الإدارة الساسانية تعود لزمان أبعد من هذا أي إلى آشور وبابل، وكان ادعاء الملك بالسلطة الإلهية، إلا أن هذه الإدعاءات لم تسلم من النزاع، فقد حصلت صراعات بين الملكية وكبرى أسر النبلاء التي ادعت التحدر من الزعماء الفرثيين القدامى الذين كانوا يريدون الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم. ولكن في النهاية وبعد قرون من الصراع، سوف تعيش الإمبراطورية الساساينة فعلياً حياة أطول من حياة الإمبراطورية الرومانية، وقد زاد من خطرها أنها ظهرت في وقت كانت روما فيه مكبلة بالأخطار في أماكن أخرى وبالاضطراب في شؤونها الداخلية، وبقي الوضع دوماً على هذه الصورة. فقد جاء مثلاً بين عامي 226-379 م خمسة وثلاثون إمبراطورياً رومانياً، بينما لم يحكم في فارس إلى تسعة ملوك ساسانيين، وكان لفترات الحكم الطويلة هذه والاستقرار الملازم لها ميزات كبيرة. ربما كان شابور الأول (241-272) م أبرز ملوك الساسانيين على الأقل حتى نهاية سلالته، وقد أسر ذات مرة إمبراطوراً رومانياً هو فاليريانس المسكين الذي يقال أن الفرس سلخوا جلده حياً وحشوه، ولكن قد لاتكون هذه الرواية صحيحة. كما أن شابور فتح أرمينيا وغزا مقاطعتي سوريا وكبدوقية الرومانيتين في مناسبات عديدة. وقد مرة بعد ذلك فترات طويلة من السلام بين روما وفارس، إلا أن هاتين القوتين الكبيرتين لم تتمكنا من التعايش الهادئ قط.
كانت الإمبراطورية الرومانية قد بلغت أقصى مداها قبل هذا بزمن طويل، وعندما مات الإمبراطور ترايانس – تراجان في عام 117م. وكانت تغطي في ذلك الحين مساحة تبلغ حوالي نصف مساحة الولايات المتحدة الحالية، وكانت أراضيها تمتد من شمال غربي إسبانيا حتى الخليج الفارسي. وكان أرمينيا قد ضمت في عام 114 م، فوصل هذا بحدود روما إلى بحر قزوين في الشمال الشرقي، وكانت مقاطعة داسيا الكبيرة إلى الشمال من الدانوب قد فتحت قبل ذلك ببضع سنوات.
صحيح أنهم اضطروا للتخلي عن بعض تلك الأراضي فور احتلالها، خاصة الواقعة وراء الفرات، ولكن هذه الرقعة الواسعة كانت مصدر مشاكل أمنية هائلة حتى من دونها. ورغم أنها لم تكن هناك قوة كبرى تهدد روما إلا في الشرق وهي دولة مثل روما قادرة على حشد الجيوش الكبرى في ميادين القتال وتنفيذ الخطط الدبلوماسية والإستراتيجية طويلة الأمد، فإن المشاكل في المناطق الأخرى باتت أعصى عن المعالجة بمرور الزمن. وربما كانت أفريقيا هي المكان الوحيد الذي بقيت فيه الأمور هادئة بعد ضم موريتانيا في عام 42 م، إذ لم يكن لروما هناك جيران ذو شأن، ولم تكن فيها مجموعات سكانية هامة خلف حدود الحكم الروماني مباشرة، حيث لاشيء سوى الصحراء الممتدة بلا نهاية.
* مدينة قديمة في أفغانستان غربي مزار شريف وجنوبي مجرى آمودريا