من مصادر التشاؤم عند بداية القرن التاسع عشر كتاب لرجل الدين الإنكليزي توماس مالتوس نشر في عام 1798 وكان يحمل عنواناً طويلاً هو: دراسة حول مبدأ عدد السكان وطريقة تأثيره في التحسين المستقبلي للمجتمع. وكان هذا الكتاب يحاول أن يبين أن العالم من الناحية الديموغرافية عبارة عن آلية ذات توازن ذاتي، أي أن عدد السكان يميل دوماً للنمو ما لم يمنع عن ذلك بصورة مقصودة، ولما كانت موارد الغذاء في العالم محدودة في النهاية، فهو يسير دوماً نحو الكارثة لأن الغذاء لايعود كافياً في مرحلة ما، فتحصل عندئذٍ المجاعة والأمراض وربما الحروب على موارد الغذاء أيضاً ويموت الملايين من الناس، فينخفض عدد السكان إلى أن يعود الغذاء فيصبح كافياً، وحين ذلك تعود هذه الدورة نفسها لتبدأ من جديد.
توماس مالتوس
أعداد السكان
إلا أن هذا الأمر لم يحدث، بل إن القرن التاسع عشر كان في الحقيقة استمراراً لتيار قديم من تزيد عدد السكان يعود إلى آلاف السنين، وقد تسارع هذا التيار في الأزمنة الحديثة، إذ أن عدد سكان العالم تضاعف بمقدار مثلين في القرن التاسع عشر، بينما استغرق قبله حوالي أربعة قرون لكي يتضاعف بالمقدار نفسه.
ويبدو أن عدد سكان العالم يتزايد منذ عام 1800 من دون أن يمر بنكسات مثل التي كان يمر بها في الأزمنة الماضية، وكان هذا الازدياد بالطبع أسرع في بعض البلاد منه في بلاد أخرى، وكذل في بعض القارات.
ففي عام 1800 كانت فرنسا تضم أكبر عدد من السكان تحت علم واحد في أوروبا إلى الغرب من روسيا، ولكنها في عام 1914 صارت في المركز الرابع بعد ألمانيا والدولة النمساوية والهنغارية وبريطانيا. وكانت الولايات المتحدة أسرع نمواً خلال المرحلة نفسها إذ صار عدد سكانها مساوياً في أربعينيات القرن التاسع عشر لعدد سكان بريطانيا، وكان الأمريكان في عا نعام 1900 قد انتشروا في كافة أنحاء القارة، بعد أن كان قسم كبير منها مجهولاً في عام 1800 وبلغ عددهم في تلك الأثناء 76 مليوناً، أي بارتفاع قدره ألف بالمائة منذ بداية القرن.
إن المعلومات المتوفرة عن بلدان أوروبا وأمريكا أفضل من تلك التي نعرفها عن آسيا وأفريقيا، ولكن أعداد السكان كانت ترتفع في كل مكان، يبدو مثلاً أن الارتفاع في الصين قد بلغ 40% حتى صار عدد سكانها حوالي 475 مليوناً، بينما ارتفع عدد السكان في اليابان من 28 إلى 45 مليوناً، وعدد سكان الهند من 175 إلى 300 مليون في القرن التاسع عشر، وكانت هذه كلها ارتفاعات كبيرة جداً.
ولم يرتفع عدد سكان العالم قبل ذلك مثل هذا الارتفاع السريع والمستمر قط، ولما كانت أوروبا تنمو بصورة أسرع بكثير من بقية أنحاء العالم، فقد ارتفعت أيضاً حصتها من سكان العالم حتى بلغت 24% في عام 1900، وكانت هذه النسبة عالية جداً بل إنها في الحقيقة أعلى منها في أي زمن قبلها أو بعدها، وهي من أسباب تأثير أوروبا الكبير على تاريخ العالم.
ويمكننا من هذه الناحية أن نضم إلى أعداد الأوروبيين أولئك الذين غادروا قارة أوروبا للاستقرار خارجها وأحفادهم أيضاً. فلولا الهجرة لكان عدد السكان في أوروبا أعلى بخمسين مليوناً في عام 1914، وكانت الأغلبية الساحقة من سكان الولايات المتحدة في ذلك الحين من أصول أوروبية، كما كانت هناك مجموعات كبيرة من الأوروبيين في كندا وأمريكا الجنوبية وأستراليا في جنوب أفريقيا وشمالها، وكان هؤلاء جميعاً يتحدثون لغات أوروبية ويعيشون بأساليب أوروبية بعد تأقلمهم مع المناخات الجديدة، وكثيراً ما كانوا يفكرون بطرق أوروبية أيضاً.
وقد بلغت الهجرة ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر إذ كان حوالي مليون مهاجر يغادرون أوروبا في كل عام في الفترة الواقعة بين 1900 و 1914، وتسمى هذه الحقبة أحياناً بالاستيطان الكبير، وكانت الهجرات التي شهدتها أوسع بكثير من الهجرات الكبرى للشعوب في التاريخ القديم، كما أنها مختلفة من ناحية أخرى هامة عن جميع الهجرات الأخرى تقريباً لأن أكثرها لم تكن إلى مناطق مسكونة ومتحضرة بل إلى مناطق شبه خالية من السكان، مثل الغرب الأمريكي والمناطق الداخلية النائية في أستراليا وسيبيريا.
فرص الحياة
من مظاهر زيادة عدد السكان ازدياد أعداد متوسطي العمر والمتقدمين بالسن في عام 1919، أي أن الناس كانوا يعيشون حياة أطول، ويمكننا تمثيل السكان في أكثر البلاد في عام 1800 بشكل أهرام عريضة القاعدة تستدق نحو الأعلى.
كان الكثيرون من الأطفال في تلك الأيام يموتون في أعمار مبكرة جداً، وكانت مرحلة الطفولة الأولى مرحلة خطيرة جداً وكان الكثيرون من الرضع يموتون في العام الأول من حياتهم، وهو أكثر سنوات العمر خطورة. وكانت مرحلة الطفولة عموماً محفوفة بالأمراض، ولكن إذا نجا منها المرء ووصل إلى عمر المراهقة فإن فرص الحياة أمامه تتحسن، ولو أنها تبقى ضعيفة بالقياس إلى ماهي عليه اليوم، ويستمر الوضع كذلك إلى أن يواجه الإنسان سن الشيخوخة بما يحمله من أخطار.
أما إذا رسمنا مخططات للسكان في عام 1914 فإننا سوف نجدها مختلفة جداً، وسوف نجد أن أضلاع الأهرام قد ارتفعت نحو الخارج وصارت أكثر عمودية في أكثر البلاد الأوروبية، أي أن جميع الفئات العمرية باتت تعيش حياة أطول. ولم يكن هذا هو السبب الوحيد لنمو السكان، ولكنه كان سبباً هاماً، ولما كان الناس يعيشون فترة أطول فقد ازدادت أعداد الأمهات والآباء وازداد بالتالي عدد الأطفال في الجيل التالي، وهكذا راح عدد السكان يتابع ارتفاعه.
في عام 1914 كان هذا التغير أوضح ما يكون في الدول الأوروبية المتقدمة، أما الولايات المتحدة فكانت حالة خاصة بسبب الأعداد الكبيرة من المهاجرين الشباب الوافدين إليها، وكان هذا النمو ينتشر أيضاً في شمال غربي أوروبا حيث ظهر للمرة الأولى إلى جنوبها وشرقها، ولو أن الفروق كانت كبيرة بين البلدان المختلفة من حيث العمر المتوقع للطفل عند ولادته.
كان الطفل المولود في إنكلترا في عام 1914 يتمتع بفرصة لبلوغ السن المتقدمة أكبر بكثير من الطفل المولود في رومانيا مثلاً، فما بالك بالطفل المولود في الهند أو أفريقيا، ولم تكن الفروق بهذه الحدة قبل مائة عام من ذلك، وقد كان هذا واحداً من فروق كثيرة في حياة الناس كانت تتسع باستمرار بين أنحاء العالم المختلفة، إذ أنهم كانوا في الأزمنة الأبكر يتوقعون نفس الدرجة من الشقاء والجوع في كل مكان من العالم، فما الذي حدث لتوقعات ملتس؟