بادر الإفرنج بالاعتداء على الشرق الأدنى قبل زمن طويل من هجوم العثمانيين على أوروبا وتهديدهم لها. في القرن الحادي عشر استعاد النورمان صقلية وجنوب إيطاليا من العرب، وبعد ذلك بزمن قصير أي في عام 1095 أطلق البابا للمرة الأولى فكرة الحملات الكبرى التي تسمى الحملات الصليبية، وكان هدفه منها تحرير الأرض المقدسة أي فلسطين من سيطرة الإسلام. وقد حصلت في الحقيقة أربع حملات هامة، الحملة الأولى نجحت في الاستيلاء على القدس، ولم يتمكن العرب من استردادها إلا بعد حوالي سبعين سنة. وقد جرت في تلك الأثناء حملة صليبية ثانية 1147-1149 م اشترك فيها إمبراطور ألماني وملك فرنسي، فابتدأت بداية بشعة بتذبيح اليهود في بلاد الراين، ومالبثت أن انتهت بكارثة. أما الحملة الثالثة 1189-1192 م فقد سعت إلى استعادة القدس بعد أن استردها القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي في عام 1187، ولكنها فشلت في ذلك بالرغم من انضمام ملك إنكلترا ريكاردوس قلب الأسد إلى الملك الفرنسي والإمبراطور الألماني الذي مات غرقاً بينما كان في طريقه إلى فلسطين. وغادرت أخيراً حملة رابعة لم يكن فيها ملوك في عام 1202 بتمويل من أهل البندقية، ولكنها تحولت من توها إلى العبث بسياسات بيزنطة الداخلية، وانتهت إلى نهب الصليبيين الفظيع لمدينة القسطنطينية في عام 1204، وتأسيسهم إمبراطورية لاتينية فيها استمرت لعقود قليلة قادمة. وكانت تلك عملية مشينة، لأن البيزنطيين مسيحيون وهدف الحركة صليبية إنما هو قبل كل شيء دعم الدين المسيحي، ثم حصلت من بعدها حملات أخرى عديدة، إلا أن عصر الحملات الكبرى كان قد ولى، ولم تعد بقادرة على أخذ فلسطين.
إن ما كشفت عنه الحملات الصليبية أهم بكثير مما حققته أو لم تحققه، فقد كانت تظاهراً جلياً لمزاج جديد ونظرة جديدة في المسيحية الغربية، كانت الحملات الصليبية تحظى بتأييد ودعم جماهير تتأجج في قلوبها حماسة دينية حقيقية، وقد شارك فيها الآلاف من الناس البسطاء، ثم هلكوا بصورة يرثى لها بسبب جهلهم وقلة استعدادهم لما كان ينتظرهم.
وكانت الحملات الصليبية جزءاً من حركة الإحياء الديني في القرن الحادي عشر، وهي تدل على افتراق المسيحيتين الشرقية والغربية وتباعدهما، ولم يكن الصراع مع الإسلام في الإمبراطورية الشرقية مقتصراً على موضوع الدين، بل كان أيضاً صراعاً على السلطة والسياسة والأراضي التي كانت في السابق لبيزنطة. لقد كانت الإمبراطورية والخلافة تعامل كل منهما الأخرى كقوة عظمى، مثلما كان الأمر بين روما وفارس، والحقيقة أن الخلافات الدينية بينهما كثيراً ما كانت أقل أهمية من الخلافات الأخرى.
ولم يكن الدافع الديني هو الدافع الوحيد في تجنيد الصليبيين، بل إن الكثيرين منهم كانت تحركهم أغراض دنيئة هي الحصول على السلب والغنائم، والأفضل منها الأرض. ومثلما انطلق فرسان النورمان إلى إنكلترا الأنكلوسكسونية وصقلية الإسلامية لكي يحصلوا على أملاك لهم، كان الكثير من الصليبيين يعتقدون أن الممالك اللاتينية الأربع التي تأسست بعد حملتهم والإمبراطورية اللاتينية التي نشأت عام 1204 م سوف تؤمن لهم المال والغنى طوال حياتهم. ومن هنا كانت الحملات الصليبية أول تظاهر لجشع الاستعمار الأوروبي ورغبته في التوسع خارج أراضيه، وكما هو الأمر في عصور لاحقة، امتزجت أهداف نبيلة وحقيرة في نفوس رجال حاولوا زرع مؤسسات غربية ودخيلة في بيئات بعيدة لاتمت لها بصلة. وكانوا يفعلون ذلك بضمير مرتاح لأنهم كانوا يعتبرون أعداءهم كفاراً استولوا على أقدس مقامات المسيحية. تقول قصيدة مشهورة من العصور الوسطى هي أغنية رولان: "المسيحيون على حق، والكفار على باطل" وإن هذه العبارة تلخص نمط تفكيرهم.
الحروب الصليبية
جرت العادة على إطلاق اسم الحملات الصليبية على سلسلة من الحملات التي قامت بها المسيحية الغربية نحو الأراضي المقدسة، وكان الهدف منها استعادة الأماكن المقدسة من حكامها المسلمين. وكانت السلطة البابوية تضمن لمن يشترك فيها أشكالاً معينة من الثواب الروحي والغفران، إلغاء أو تخفيف الزمن الذي يمضيه المرء في المطهر بعد الموت، وأن تكتب لهم الشهادة إذا ماتوا في الحملة. كانت الحملات الأربع الأولى هي الأهم، وهي تشكل ما يعتبر عادة حقبة الحملات الصليبية.
1095 م
البابا أوريانس الثاني ينادي بالحملة الصليبية الأولى في مجمع كليرمون
1099 م
الاستيلاء على القدس وتأسيس الممالك اللاتينية
1144 م
الأتراك السلاجقة يستولون على مدينة إديسا المسيحية (الرها – أورفه) التي ألهم سقوطها القديس برنار (برنردس) بالدعوة إلى حملة جديدة 1146م
1147-1149 م
الحملة الصليبية الثانية التي باءت بالفشل (ونتيجتها الوحيدة الهامة هي استيلاء أسطول إنكليزي على مدينة لشبونة وإعطاؤها لملك البرتغال
1187 م
صلاح الدين يستعيد القدس للإسلام
1189 م
إطلاق الحملة الصليبية الثالثة التي فشلت في استعادة القدس
1192 م
صلاح الدين يسمح للحجاج بدخول قبر المسيح
1202م
الحملة الصليبية الرابعة وهي آخر الحملات الكبيرة وقد بلغت ذروتها باستيلاء الصليبيين على القسطنيطينية ونهبها 1204 وتأسيس إمبراطورية لاتينية فيها
1212 م
مايسمى بحملة الأطفال
1216 م
الحملة الخامسة تستولي على دمياط في مصر وتخسرها من توها
1228-1229 م
الإمبراطور فريدريك الثاني المحروم من الكنيسة يقوم بحملة صليبية ويعيد الاستيلاء على القدس وتوج نفسه ملكاً
1239-1240 م
حملات صليبية قام بها ثيوبالد الشامباني وريتشارد الكورنوالي
1244 م
الإسلام يسترد القدس
1248-1254 م
لويس التاسع ملك فرنسا يقود حملة إلى مصر حيث يؤخذ سجيناً ثم يفتدى ويحج إلى القدس
1270م
الحملة الثانية للويس التاسع، وكانت ضد تونس حيث مات
1281 م
سقوط عكا بيد الإسلام، وهي آخر موطئ قدم للإفرنج في بلاد الشام
لقد حصلت حملات أخرى كثيرة سميت هي الأخرى صليبية، أحياناً بصورة رسمية، كان بعضها موجهاً ضد غير المسيحيين مثل مسلمي إسبانيا والشعوب السلافية وبعضها ضد الهراطقة مثل الألبيجيين، وبعضها ضد الملوك الذي أهانوا البابوية. كما حصلت بعدها حملات فاشلة إلى الشرق الأدنى في عام 1464 فشل البابا بيوس الثاني في الحصول على دعم لحملته، وكانت تلك آخر محاولة لإرسال حملات صليبية إلى الشرق الأدنى
ولكن الدول الصليبية سرعان ما تداعت عندما استعاد الإسلام عافيته، واشتدت العداوة بين المسلمين والمسيحيين، وقد تعلمت أوروبا أشياء كثيرة من الثقافة الإسلامية عن طريق إسبانيا وصقلية، وفقد تشربت علوم الإغريق من العلماء العرب العظام في قرطبة، كما أن الصليبيين جلبوا معهم عادات جديدة مثل استخدام الملابس الحريرية والعطور والأطعمة الجديدة وعادة الاستحمام المتكرر، وكان الأوروبيون بحاجة ماسة له، أما الإسلام فقد ازداد قسوة، وعندما استعاد حكمه في بلاد الشام عانى رعاياه المسيحيين الذي كانوا قد خانوا حكامهم المسلمين، وبدأت الجماعات المسيحية القديمة في المنطقة تنحسر، بل إن أكثرها اختفت تماماً.
لقد غيرت الحملات الصليبية نظرة المسيحيين أيضاً، لأن جهادهم وتصميمهم على الغزو باسم الصليب كان المهد الذي ولد فيه اندفاع الأوروبيين العنيد للاستيلاء على العالم في العصور اللاحقة. كان أولئك الأوروبيون واثقين في قلوبهم مثل الصليبيين بأن الحق إلى جانبهم، وبأن عليهم استخدام القوة لكي يسود هذا الحق. كما أن هذه الروح نفسها قد تبدت في إسبانيا أيضاً. كان كل من الجغرافية والمناخ وانقسام المسلمين قد ساعد المسيحية على البقاء والاستمرار في شبه الجزيرة بعد الفتح الإسلامي لها، وقد ظل الأمراء والزعماء المسيحيون متمسكين بمواقعهم في أستوريا ونافاز. ثم ساعدهم تأسيس شارلمان لحدوده الدفاعية في إسبانيا، وتوسعت تلك الحدود على عهد كونتات برشلونة الجدد، فراحوا عندئذٍ يقرضون من أراضي الإسلام في أسبانيا، وظهرت مملكة ليون في أستوريا واتخذت مكاناً لها إلى جانب مملكة نافاز. ولكن المسيحيين اختلفوا فيما بينهم في القرن العاشر، فعاد العرب وأحرزوا تقدماً عليهم، خاصة عند نهاية القرن عندما أخذ فاتح عربي كبير هو المنصور برشلونة وليون ثم مزار مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا نفسه في عام 998م. إلا أن إسبانيا المسيحية ما لبثت بعد قرون قليلة أن لمت شملها بينما وقعت إسبانيا المسلمة فريسة لتفرقها وتفككها، لقد كانت المسيحية في هذا البلد بالذات هي بوتقة القومية، وكانت المواجهة بين الحضارتين هي الوقود الذي يزكي نارها؛ والحقيقة أن استعادة إسبانيا التي تمت خلال القرون القادمة إنما كانت بالنسبة للأسبان عصراً من الحملات الصليبية.