اشتداد كنيسة العصور الوسطى وتصلبها
كثيراً ما شعر قادة الكنيسة في القرون الممتدة من نهاية العالم القديم حتى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر العزلة والخطر. وكانت خلافات الكاثوليكية مع الأرثوذوكسية الشرقية في ازدياد متواصل، حتى انتهى الأمر إلى القطيعة الكاملة تقريباً، لذلك كان من الطبيعي أن تتصف الكاثوليكية بالتصلب والعدوانية، إذ إنها لم تكن تشعر بالأمان. صحيح أن شارل مارتل قد صد الإسلام في الغرب، إلا أن العرب ظلوا يشكلون خطراً كبيراً، أما الفايكنغ فلم يكونوا إلا همجاً وثنيين. وفي الداخل أيضاً شعر رجال الكنيسة أنهم محاصرون ومطوقون، لأنهم كانوا يعيشون في وسط شعوب مازالت شبه وثنية، فكان عليهم التعايش مع ثقافاتها وترويضها قدر المستطاع مع تقبل بعض عاداتها وتقاليدها المحلية ولكن بحذر شديد. كل هذا كان على الكنيسة أن تقوم به من خلال رجال دين أكثرهم غير معلمين وبلا انضباط كبير ولا روحانية حقيقية، وكان الملوك والزعماء يجوسون من حولهم مقدمين لهم العون أحياناً وطامعين في عونهم أحياناً أخرى، فكانوا بذلك مصدر قوة لهم وفي الوقت نفسه خطراً حقيقياً على استقلال الكنيسة عن المجتمع الذي يجب عليها أن تسعى لخلاصه.
كانت الكنيسة معتادة على البحث الدائم عمن يحميها، فعندما سقطت رافينا بيد اللمبرديين انطلق البابا اسطفانس إلى بلاط بيبان وليس إلى بلاط بيزنطة، لا لرغبة منه في قطع علاقاته بالإمبراطورية الشرقية، ولكن لأن جيوش الإفرنج كانت قادرة على تأمين حماية لا يمكن للشرق أن يقدمها. ثم أن البابوية كانت معرضة أيضاً لخطر العرب الذين راحوا يهددون إيطاليا منذ بداية القرن الثامن، ناهيك عن الزعماء الإيطاليين الذي اشتدوا وصاروا صعاب المراس مع أفول هيمنة اللمبرديين. وقد مرت أيام عصيبة جداً خلال القرنين ونصف القرن التي تلت تتويج بيبان، فلم تكن بيد روما إلا أوراق قليلة وبدا أنها إنما بدلت سيداً بآخر، وظل الباباوات زمناً طويلاً عاجزين عن الحكم الحقيقي حتى ضمن أراضيهم، إذ لم تكن لديهم قوات مسلحة كافية ولا إدارة مدنية، ولما كانوا أصحاب أراض فقد كانوا معرضين للسلب والنهب والابتزاز، كما أن بعض الأباطرة كانوا يتولون بأنفسهم تنصيبهم وإقالتهم
انكلترا
وسرعان ما أصبحت انكلترا أيضاً هدفاً أساسياً لغزوات الفايكنغ الدنمركية، كانت ممالك إنكلترا الوثنية قد تنصرت بشكل واسع بحلول القرن التاسع، وكانت البعثة التبشيرية الرومانية التي تأسست في كنتربري في عام 597م قد نافست الكنيسة السلتية الأقدم حتى عام 664م، وكان ذلك العام حاسماً إذ عقد فيه مجمع كنسي في وتبي وأعلن فيه ملك من نورثمبريا عن اتخاذ تاريخ الفصح التي حددته روما، فكان هذا خياراً رمزياً حدد أن مستقبل إنكلترا سوف يرتبط بالتقاليد الرومانية وليس بالتقاليد السلتية. وكانت بعض الممالك الإنكليزية تقوى بين حين وآخر فتصير لها بعض السطوة على الأخريات، ولكن أياً منها لم تكن قادرة على مواجهة موجة الهجمات الدنمركية المتصاعدة منذ عام 851 م وقد أدت هذه الغزوات إلى احتلال ثلثي البلاد وتأسيس مناطق واسعة من المستوطنات، وصار شعب الأنكلوسكسون في خطر الارتداد إلى الوثنية والاندماج في عالم الثقافة الاسكندينافية، إلا أنه قد أنقذ من هذا المصير على يد ألفريد الكبير ملك وسكس.
إن الملك ألفريد هو أول رجل إنكليزي يجب أن يظهر اسمه في هذا الكتاب، وهو أيضاً أول بطل قومي إنكليزي. عندما كان طفلاً في الرابعة أخذه أبوه إلى روما ومنحه البابا ألقاباً فخرية، وكانت ملكية وسكس مرتبطة بالمسيحية ارتباطاً وثيقاً لا تفصم عراه. وكان ألفريد يعتبر نفسه حامي المسيحية من الوثنية وحامي إنكلترا من الغزاة الأجانب في الوقت نفسه، وفي عام 871 م ألحق أول هزيمة حاسمة بجيش دنمركي في إنكلترا، واللافت أن الملك الدنمركي قَبِلَ بالانسحاب بعد سنوات قليلة من وسكس وباعتناق المسيحية أيضاً، فكانت هذه علامة على أن الدنمركيين سوف يبقون في إنكلترا، ولكن أيضاً على أن بالإمكان تفريق بعضهم عن بعض. وسرعان ما أصبح ألفريد زعيم الملوك الإنكليز الباقين جميعاً، ولم يبق في النهاية من ملك سواه، وقد استعاد لندن، وعندما مات في عام 899 م كانت أسوأ مراحل الغارات الدنمركية قد ولت، وسوف يحكم أحفاده البلاد موحدة، وقد قبل بحكمهم الجميع حتى المستوطنين في أراضي القانون الدنمركي، وهي الأرض التي حددها ألفريد والتي مازالت تتميز حتى يومنا هذا بأسماء اسكندنافية للأماكن وأساليب اسكندنافية في الكلام.
لقد أسس ألفريد سلسلة من القلاع كجزء من نظام جديد للدفاع عن البلاد عن طريق تجنيد السكان المحليين، ومكنت هذه القلاع من زيادة تقليص أراضي القانون الدنمركي، كما وضعت جزءاً كبيراً من نمط الحياة القادمة في إنكلترا، وبنيت من حولها مدن مازالت مواقعها مسكونة حتى اليوم. وأخيراً فإن ألفريد قد أقدم بموارده الضئيلة على عملية إحياء شعبه ثقافياً وفكرياً، فراح عملاء بلاطه ينسخون الأعمال ويترجمونها كما في بلاط شارلمان، وأتاح هذا لنبلاء الأنكلوسكسون ورجال دينهم أن يقرؤوا الكتاب المقدس بالأخص وغيره من الكتب بلغتهم. وكانت هذه التجديدات علامة على بداية عصر عظيم في إنكلترا، فقد حدثت نهضة في حركة الرهبنة بعثت الحياة في الكنيسة، وظهرت بنية حكومية محلية مكونة من مقاطعات استمرت بعض حدودها حتى عام 1974م ، كما أمكن ضبط الدنمركيين في مملكة متحدة خلال نصف قرن من الاضطرابات. ولم تهن الملكية الأنكلوسكسونية إلا عندما ضاعت الكفاءة من سلالة ألفريد، فقام الفايكنغ عندئذٍ بهجوم جديد ودفعت مبالغ طائلة من المال جزية للتاج الدنمركي. وأطاح أحد الملوك الدنمركيين (وهو مسيحي هذه المرة) بالملك الإنكليزي، ثم مات مخلفاً ابناً صغير السن لحكم الأراضي التي فتحها، وكان هذا هو الملك الشهير كنوت، الذي أصبحت إنكلترا على عهده لبرهة قصيرة جداً جزءاً من إمبراطورية دنمركية كبيرة (1006-1035)م ، ثم حل بإنكلترا غزو نرويجي كبير وأخير في عام 1066، ولكنه تحطم في معركة ستامفرد بريدج.
لقد خلفت الحضارة الاسكندنافية تراثاً هاماً في أوروبا، مثل دوقية نورمنديا وأدب الساغة، ولكنها لم تكن في المحصلة إلا مرحلة من مراحل تاريخها، واندمج النورمان رويداً رويداً بسكان الأراضي التي استوطنوها. وعلى عهد كنوت كان الدنمركيون المقيمون في أراضي القانون الدنمركي أنفسهم يتحدثون باللغة الإنكليزية ويقبلون القانون الإنكليزي قانوناً لهم. أما أحفاد زعيم النورمان رولو وأتباعه الذين تقدموا من نورمنديا لفتح إنكلترا في القرن الحادي عشر فكانوا قد أصبحوا فرنسيين، وإن أغنية الحرب التي كانوا يرددونها في معركة هيستنغز كانت تتغنى بالبطل الإفرنجي شارلمان، بينما كان سكان بلاد القانون الدنمركي المغزيين قد أصبحوا إنكليزاً. وبالمثل فقد الفايكنغ تميزهم العرقي في كييف روس في موسكوفيا وأسس النورمانديون أسرة ملكية وطبقة أرستقراطية جديدتين في إنكلترا في عام 1066، ولكن خلال قرون قليلة كانت السلالة وأرستقراطيتها قد أصبحتا كلتاهما إنكليزيتين أيضاً.