قد لاتستدعي هذه التطورات اهتماماً كبيراً للوهلة الأولى، وهي تبدو أشبه بصراعات النبلاء والعائلات الكبرى في أوروبا خلال القرون الوسطى، ولكن الحقيقة أن هذا كان عصراً هاماً نحت فيه اليابان في تطورها مناحي خاصة جداً. فرغم بعض المحاولات التي جرت عند بداية عهد الفوجيوارا من أجل خلق إدارة مبنية على الجدارة، مابرحت سيادة الإمبراطورة تضمحل باستمرار، بينما ظل النبلاء متشبثين بما بلغوه من سلطة ونفوذ. وقد منع هذا الأمر الاهتمام بالمصالح الأخرى، فتجمد مجتمع اليابان وتوقف عن التطور، وصارت المناصب وراثية، كما منحت حقوق فرض الضرائب الإمبراطورية للذين يتمتعون برضا عشيرة الفيوجوارا. وإن كسف الأباطرة هذا قد اكتمل في مرحلة الكاماكورا (1185-1333)م، عندما انتقل الحكم الفعلي إلى القائد العام لسلالة ميناموتو كان يلقب بالشوغان ويحكم شكلياً باسم الإمبراطور، ولكن الحقيقة أن حكمه كان مستقلاً ولمصلحة عشيرته هو، التي لم تكن أراضيها في منطقة هيان حيث يعيش الإمبراطور بل في منطقة كاماكورا. وما برحت الأمور تتطور باطراد من تآكل سلطة الإمبراطور إلى تآكل فكرة السلطة المركزية أصلاً، وكان هذا التطور مختلفاً جداً عما حدث في الصين، ولطالما انتهى ذلك بالفوضى والحرب الأهلية بين الزعماء.
ولولا الحماية التي يؤمنها البحر لكانت هذه الاضطرابات خطيرة جداً على البلاد بل ربما لما كانت قد حصلت أصلاً لذلك لم تعان اليابان من مشاكل الغزو الخارجي، وكانت مشكلتها الوطنية الوحيدة هي السيطرة على البرابرة الآينو. ولم يكن المجتمع الياباني في ذلك الزمن على درجة من التطور تدفع الناس للمطالبة بحكومة أكثر مركزية، بل يبدو أن أكثر اليابانيين كانوا راضين بقبول سلطة العشيرة والعائلة وعبادتهم الوطنية، أي العبادة الشنتوية.
من الملامح الأخرى الهامة لذلك العصر النمو الكبير للروح العسكرية فيه، إذ بلغت فيه القيم العسكرية من ولاء وجلد على الشدائد وشجاعة أعلى مراتب التوقير والتمجيد. ومن أسباب هذا التطور أن النبلاء الأصغر ونبلاء الريف قد أصبحوا أكثر استقلالاً مع اقتراب حقبة الفيوجوارا من نهايتها، كما ساهمت في ترسيخه الحروب الأهلية التي كان المحاربون فيها يلتزمون بخدمة سادتهم كأتباع لهم. إن هذا الأمر شبيه بما كان يحدث في أوروبا في نفس الوقت تقريباً، أي طريقة تنظيم المجتمع التي سميت إقطاعية، ولكن على نطاق أوسع بكثير، وقد برزت اليابان رويداً رويداً طبقة جديدة ذات مكانة سامية لاتعلو عليها إلا مكانة النبلاء الكبار هي طبقة الساموراي، الذين كانت قيمهم ومثلهم الفروسية دوماً مصدر وحي وإلهام للقوميين اليابانيين، وكثيراً ما ساهمت أيضاً في طبع مجتمع اليابان بطابع عنيف جداً.
إن هذا الإجلال الكبير للمحارب كان يرافقه شعور متزايد لدى اليابانيين بأنهم شعب متفوق لا يقهر عسكرياً، وتدين هذه النظرة إلى نجاحهم في صد محاولتين قام بهما المغول لغزو بلادهم، كانت أولاهما في عام 1274 م والثانية في 1281م. وقد جرت في هاتين الغزوتين عمليات حربية هائلة واستخدمت فيهما أسلحة قوية ومتطورة، واستفاد المغول من التقنية الصينية واستعملوا المنجنيق لرمي قنابل تنفجر في الهواء. والحقيقة أن الغزوة الثانية قد قضت عليها عاصفة دمرت أسطول المغول هي عاصفة الكاميكاز أي الريح الإلهية التي رأى فيها اليابانيون يد عونٍ من السماء امتدت لنجدة بلادهم.
أما وضع الفلاح الياباني العادي خلال هذه التطورات فكان يسير من سيء إلى أسوأ، فلا الاقتصاد نما، ولا الزراعة تطورت من الناحية التقنية، ولا المدن اتسعت كما حدث في الصين. صحيح أن اليابان تمكنت ببطء من زراعة كمية أكثر من الغذاء، إلا أن السبب كان زيادة حجم الأملاك الزراعية وبالتالي حجم الأراضي المزروعة، وليس تطور التقنية. وكان الفلاح يدفع ضرائب باهظة، وهي تذهب في العادة لسيده الذي منحته الشوغونية حق فرضها، وكان يزرع الأرز وهو ما يشكل القسم الأكبر من غذاء اليابان. ثم تفاقمت الأحوال بسرعة في القرن الخامس عشر، فانتشرت الأوبئة والمجاعات، وراح الفلاحون يتكتلون في جماعات وتحالفات لحماية أنفسهم تحت زعامة المحاربين العاطلين عن العمل، ونجم عن هذا الأمر حركات الثورة والعصيان.
ولكن هذا الفقر كان هو الأساس الذي قامت به حضارة اليابان البديعة، لقد كان بهاء تلك الحضارة على عهد الفوجيوارا محصوراً بحلقة البلاط الإمبراطوري، ولكنه امتد بعد ذلك إلى كافة الطبقة الحاكمة. ونبذت اليابان رويداً رويداً الثقافة الصينية أو أعادت صياغتها حسب حاجاتها الخاصة، فظهر أول أدب ياباني وولدت دراما النو، وهي مزيج فريد من الشعر والتمثيل الإيمائي والموسيقى يؤدى بملابس وأقنعة مشغولة بعناية وإتقان. واللافت أن بعض أشهر الكتب اليابانية قد كتبتها سيدات من بلاط هيان، إذ يبدو أن الكتابة اليابانية كانت تعتبر أمراً يليق بالنساء لأنهن غير قادرات على الإتيان بالأعمال الجدية، بينما كان على الرجال أن يستمروا باستخدام اللغة الصينية في تناول أمور الفنون والمعرفة الراقية، مثلما ظل المثقفون في أوروبا يستخدمون اللاتينية لغة للعلم.
لقد أثمرت هذه الثقافة أعمالاً فنية هي من أروع ما صنعته يد الإنسان على الإطلاق، وكان الفنانون اليابانيون يشددون دوماً على التناسب والبساطة والكمال في إتقان الصنعة، وقد تجلى هذا في الخزف والتصوير شغل المينا والحرير، وفضلاً عن الفنون التي تميز اليابان من تنسيق الزهور وتصميم الحدائق الطبيعية وصنع السيوف الجميلة، وكان الفنانون الكبار يحظون بشهرة وتقدير عظيمين. كما أن هذه الفنون كلها قد بلغت في اليابان مرتبة عالية من الإتقان في أكثر مراحل تاريخها اضطراباً وفوضى، وبالرغم من الضرر الاجتماعي والاقتصادي الذي جرته على البلاد نزاعاتها الأهلية.
إن بعض تلك الأشياء الجميلة التي كان يصنعها اليابانيون قد بدأت تجد طريقها إلى الأسواق في الخارج، فكانت الصين في القرن الخامس عشر زبوناً هاماً، كما لعب الرهبان البوذيون دوراً كبيراً في تجارتها مع اليابان. وكان لابد لهذا الأمر من أن ينبه اهتمام الناس، فصاروا يرغبون بمعرفة المزيد عن إمبراطورية الجزر البعيدة التي تأتي منها تلك التحف الثمينة، وكان الأوروبيون من بين أولئك الفضوليين، وإن أول الذين وصلوا منهم هم البرتغاليون في عام 1543م على الأرجح، وسرعان ما تبعهم آخرون. ولم تكن ظروف اليابان الداخلية في ذلك الحين تشكل أي عقبة في طريقهم، ففي عام 1570 م فتح زعيم ياباني كان قد اعتنق المسيحية قرية ناغازاكي الصغيرة للبرتغاليين، لقد أتى هؤلاء الدخلاء بديانتهم إذاً كما أتوا بالأسلحة النارية التي ألهبت ولع اليابانيين بالاقتتال فيما بينهم وذكت أواره. وقد تبنى اليابانيون هذه الأسلحة بشغف كبير ينبئ بما سيأتون به في المستقبل، أي بعملية التحديث الرشيدة والمدروسة التي سوف ينهضون بما بعد قرنين ونصف القرن، وهي أعظم عملية تحديث من نوعها قام بها شعب خارج أوروبا.