إلا أن أكثر الأنظمة تجديداً على الإطلاق إنما كانت تعاليم البوذا، ويعني هذا الاسم الذي أطلق عليه ”المستنير” أو ”الواعي” أما اسمه الأصلي فهو سدهارتا غوتاما، وهو لم يكن برهمنا بل أميراً من الطبقة المحاربة عاش في بداية القرن السادس قبل الميلاد. تربى سدهارتا تربية نبيلة في سعة من العيش في دولة على الطرف الشمالي من سهل الغانج، ولكنه وجد حياته غير مرضية فترك مسكنه، وقضى سبع سنوات في التنسك وإماتة الجسد قبل أن يبدأ بالوعظ والتعليم. وقد وضع عقيدة متقشفة وأخلاقية الهدف منها التحرر من العذاب عن طريق الوصول إلى حالات أعلى من الوعي، فقد علم بوذا تلاميذه أن يكبحوا متطلبات الجسد أو ينبذوها بحيث لا يمنع شيء روحهم من بلوغ حالة النرفانا المباركة، أي التوحد بالحقيقة النهائية أو الإلوهية التي كان يؤمن أنها كامنة وراء الحياة، فمن خلال إماتة الذات على هذه الصورة كان بإمكان الإنسان أن يتحرر من دورة البعث والتقمص التي لا تنتهي، وهي نمط الوجود الذي كان يقول به الدين على أيامه، وكذلك الهندوسية من بعده.
يبدو أن بوذا كان يتمتع بقدرات عملية وتنظيمية كبيرة، ونزاهة أخلاقية لا غبار عليها، وشخصية سرعان ما جعلت منه معلماً محبوباً وناجحاً، وقد تجنب الديانة البرهمنية ولم يعارضها، وإن ظهور جماعات من الرهبان البوذيين قد أمن لعمله بيئة من المؤسسات التي سوف تستمر من بعده، كما أنه منح دوراً للذين لم ترضهم الممارسات التقليدية، خاصة النساء وأتباع الطبقات الدنيا، إذ لم تكن الطبقات تعني شيئاً في نظره. إلا أن ما صار يعرف بالبوذية، أي الديانة التي طورها أتباعه بناء على تعاليمه، قد لا تعكس نظرته الشخصية، لأن أفكاره كانت بسيطة لا تؤمن بالطقوس ولا بإله. وسرعان ما مرت عقيدته بتطور قد يعتبره البعض تشويهاً لها، وضمت الكثير من المعتقدات والممارسات التي كانت موجودة قبلها مثل جميع الديانات الكبرى، إلا أن هذا التطور قد ساعدها على الاحتفاظ بشعبية كبيرة، وسوف تمتد بعد موت غوتاما بقرون، وقد مات في حوالي 483 ق.م لتصبح أكثر الديانات انتشاراً في آسيا، وقوة عظيمة في تاريخ العالم، وهي أول ديانة عالمية امتدت خارج المجتمع التي ولدت فيه.
منذ كان بوذا على قيد الحياة كانت قد اكتملت الخطوط الأساسية لنمط الحضارة الهندية التي مازالت حية اليوم متمتعة بقدرة عظيمة على تمثل الثقافات الأخرى واستيعابها، وهذه حقيقة هامة جداً تميز الهند عن بقية العالم. إن أولى التقارير التي أتتنا من شاهد عيان عن حضارة الهند الباكرة تعود للعصر الهلنستي، بعد حوالي قرنين من موت بوذا، وهذا الشاهد هو رجل إغريقي اسمه ميغاستينيس أرسله الملك السلوقي سفيراً إلى الهند في حوالي عام 300 ق.م، وهو يخبرنا عن الهند الواقعة وراء نهر الهندوس، والتي لم يبلغها جيش الاسكندر قط، لأن ميغاستينيس هذا قد سافر حتى البنغال وأوريسا وقابل الكثيرين من الهنود واستجوبهم. صحيح أنه كان يروي قصصاً مختلفة عن أناس يعيشون على الروائح بدلاً من الطعام والشراب، وعن عمالقة ذوي عين واحدة في وسط الجبين، وآخرين ذوي أقدام ضخمة يستخدمونها للاحتماء من الشمس، وعن أقزام وأناس بلا فم، ولكنه يصف أيضاً الهند على عهد حاكم عظيم هو جندرة كبتا مؤسس السلالة التي تسمى سلالة الموريا، ونحن نعرف أشياء أخرى عن جندرة كبتا هذا من خلال مصادر أخرى. ويقول بعضهم إنه استلهم الفتح عندما رأى في شبابه الإسكندر الكبير أثناء غزوه للهند، وقد بنى على كل حال دولة شملت واديي الهندوس والغانج الكبيرين فضلاً عن القسم الأكبر من أفغانستان التي أخذها السلوقيين، وبلوشستان وكانت عاصمتها في باتنا. ويبدو من رواية ميغاستينيس أن شعوبها كانت منقسمة منذ ذلك الحين إلى تقليدين دينيين، أحدهما الديانة البرهمنية القديمة التي كانت أصل الهندوسية، والأخرى على ما يبدو هي البوذية. أما جندرة كبتا فيقال إنه قضى الأيام الأخيرة من حياته معتزلاً مع أتباع الديانة اليانية قرب ميسور حيث مارس طقوس تجويع النفس حتى الموت.
هند الموريا
صحيح أن النمط الديني لتاريخ الهند كان قد وضع بحلول نهاية الحقبة الفيدية، إلا أنه ظل مرناً وقد حدثت فيه تطورات جديدة، فحركة الرهبنة مثلاً وهي اختراع يعود للأزمة الفيدية، قد أدت إلى تجارب الزهد والتنسك فضلاً عن التأمل الفلسفي. كما أن ثمة ديانة جديدة على درجة كبيرة من النجاح نشأت كرد فعل ضد شكلية الديانة البرهمنية هي الديانة اليانية، التي ابتكرها معلم من القرن السادس، أوصى بأشياء عديدة منها احترام حياة الحيوان، وهذا ما جعل الزراعة وتربية الحيوان أمراً مستحيلاً، لذلك مال اليانيون إلى ممارسة التجارة فصارت جماعتهم من أغنى الجماعات في الهند.