التسين
لقد أتت سلالة التسين من دولة في الغرب ظل بعض الصينيين يعتبرونها بربرية حتى القرن الرابع ق.م، وتذكرنا قصتهم هذه بقصة صعود مقدونيا في العالم الإغريقي، لاسيما أنهما قد حدثتا في زمنين متقاربين. وقد ازدهرت سلالة التسين، وربما ساهم في هذا الازدهار عملية إصلاح جذرية للقانون قام بها وزير من وزرائهم في حوالي عام 350 ق.م، وربما كان من أسباب نجاحهم أيضاً أنهم استخدموا سلاحاً جديداً هو السيف الحديدي الطويل. وقد احتلوا مقاطعة تسيشوان ثم صاروا مملكة في عام 325 ق.م، وكانت ذروة نجاحاتهم انتصارهم على آخر خصم لهم في عام 221 ق.م، وتوحيد الصين للمرة الأولى في إمبراطورية واحدة تحت حكم سلالتهم التي سميت البلاد على اسمها. لقد كان هذا الإنجاز إنجازاً عظيماً، ويمكننا أن نعتبر الصين منذ ذلك الحين مركزاً لحضارة واحدة واعية لهويتها المميزة. وكان هناك قبل ذلك علامات تدل على أن الأمور سوف تتطور في هذا الاتجاه، فالحقيقة أن بعض أجزاء الصين كانت عند نهاية مرحلة الدول المتحاربة تتشابه فيما بينها بصورة واضحة تعادل الفروق التي بينها، وعندما جاءت سلالة التسين وحققت للبلاد وحدتها السياسية من خلال قرن كامل من الفتوحات، كانت تلك نتيجة طبيعية للاندماج الثقافي الذي كان جارياً. بل إن بعض الناس يقولون بإمكانية الشعور بوجود القومية الصينية قبل عام 221 ق.م فإذا كان هذا صحيحاً فلا ريب أنه قد سهل امتداد الفتوحات، إلا أن سلالة التسين قد أطيح بها بعد أقل من عشرين سنة وحلت محلها سلالة جديدة.
الصين الإمبراطورية
كانت توجد وراء حدود الإمبراطورية الرومانية بلاد كثيرة غريبة لا يعلم الرومان عنها الشيء الكثير، إلا أن أكثر تلك البلاد غموضاً إنما هي الصين، فالرومان لم يتصلوا بها إلا اتصالاً واهياً وغير مباشر عن طريق التجارة، ومنها كان يأتي الحرير لهذا كان الرومان يسمونها serica أي ذات الحرير. إن عزلة الصين الطويلة قد أمنت لثقافتها قروناً طويلة من المناعة، ورغم أن علاقاتها بشعوب آسيا الوسطى كانت وثيقة ومعقدة فإنها منذ توحدت لم يعد لديها على حدودها دول كبرى يتوجب عليها إقامة علاقات معها. وقد ازدادت عزلتها مع تحول مركز ثقل الحضارة الأوروبية إلى الغرب والشمال، وظهور حاجز بينهما مكون من الدول الوريثة للتركة الهلنستية، أي بيزنطة وفارس الساسانية ثم الإسلام.
ولهذه الأسباب بقيت الصين بعيدة، فلم تصل إليها التيارات التي كانت تغير الأجزاء الأخرى من البر الأوروبي الآسيوي، بل ظلت بمنأى عن الاضطرابات التي حلت بغيرها من الحضارات الكبرى. وحتى عندما أتى الإسلام كان تأثيره فيها أقل من غيرها. وكانت الصين تتمتع أيضاً بقدرة عظيمة على امتصاص التأثيرات الأجنبية التي تفد إليها، وتعتمد قدرة التمثل هذه على ثقافة نخبة إدارية استمرت قروناً طويلة بالرغم من تبدل السلالات والإمبراطوريات، وهي التي وضعت الصين على مسارها الثابت. كانت هذه الإدارة تحتفظ بسجلات مكتوبة منذ أبكر الأزمان، وقد زودتنا سجلاتها بوثائق لا مثيل لها وغنية بالحقائق الموثوقة، ولو أنها من اختيار أقلية صغيرة تعكس اهتماماتها، ولهذا فنحن ندين بقسط كبير من معرفتنا بالصين إلى كتبتها. ويشدد التاريخ الذي سجله أولئك الكتبة على الاستمرارية والسلاسة في مرور الأحداث، وهو أمر طبيعي في بلد هائل المساحة لأن إدارته لا يمكن أن تنجح إلا إذا تحقق لها التجانس والانتظام. إلا أن هذه السجلات تغفل أشياء كثيرة، فحتى في الأزمنة التاريخية يصعب علينا أن نعرف كيف كانت الأكثرية العظمى من أهل الصين تعيش حياتها وماذا كانت همومها الحقيقية.
ومن الأسهل قليلاً أن نتحدث عن تاريخ هذه الدولة. يتكون العمود الفقري لتاريخ الصين بعد نهاية مرحلة الدول المتحاربة من صعود السلالات المختلفة وهبوطها، ويمكننا أن نجد تواريخ محددة لهذه السلالات، إلا أن استخدام تلك التواريخ قد يكون مضللاً لأن الأمور لا تنقلب فجأة بين عام وآخر، بل قد تحتاج السلالة عقوداً عديدة لكي تبسط سلطتها الفعلية على الإمبراطورية كلها، وقد يستغرق فقدانها لسلطتها زماناً أطول، والحقيقة أنه لابد من تجاوز الحدود بين السلالات عند الحديث عن تطور الأحداث. لقد أبقينا هذا التحفظ في بالنا يبقى الحديث عن تاريخ الصين بحسب سلالاتها طريقة مفيدة تمكننا من تقسيمه إلى عدد من المراحل الكبرى التي تمتد حتى القرن العشرين، إن أولى المراحل التي يهمنا أمرها هما مرحلتا التسين والهان.