رغم تفاقم الفساد والعنف السياسيين في روما، ورغم سوء بعض حكام المقاطعات الرومانية، فقد حققت سلطة روما السلام لمنطقة واسعة من المتوسط والشرق الأدنى، ولفترات طويلة لم تعرفها من قبل، وفرضت الإدارة الجمهورية النظام على شعوب كثيرة وأمنت لها قانوناً مشتركاً. وكان الكثيرون من غير الرومان الذين يعيشون تحت حكم روما معجبين بمن يديرون هذا النظام بالنظر لما يتمتعون به من حس بالعدالة والنزاهة، وبسبب أعمالهم التي رسخت جذور الحضارة. وكانت النتيجة العملية لهذا كله هامة جداً لتاريخ العالم أيضاً، لأن الجمهورية قبل أن تنتهي كانت قد وضعت إطاراً سياسياً وعسكرياً على مستوى لا مثيل له إلى الغرب من الصين، كما أنها حمت الحضارة الهلنستية، وكانت ثقافات كثيرة تعيش ضمن هذا الإطار، الواحدة إلى جانب الأخرى، وتساهم كل منها بدورها في هذا الكيان العالمي.
وبقيت هذه البنية تنمو لزمن طويل، ففي عام 58 ق.م ضم الرومان قبرص، وفي السنوات القليلة التالية استلم سياسي شاب اسمه يوليوس قيصر قيادة الجيش الروماني في غاليا وراء جبال الإلب في فرنسا، وقضى على استقلال الشعوب السلتية فيها، كما أنه قاد حملتي استطلاع عبر القنال الإنكليزي (المانش) إلى الجزيرة التي كان الرومان يسمونها بريطانيا، ولكنه لم يبق فيها، ويمكن اعتبار هذه الأراضي آخر ما ضم إلى الإمبراطورية الجمهورية. وفي عام 50 ق.م باتت جميع السواحل الشمالية للمتوسط وكل فرنسا والبلاد الواطئة وإسبانيا والبرتغال وقسم كبير من الساحل الجنوبي للبحر الأسود ومن تونس وليبيا الحاليتين تحت حكم روما، إلا أن الجمهورية كانت عندئذٍ على حافة الزوال.
لقد ذكرنا أسباب انهيارها، إلا أن الطريقة التي حدث بها تدين بالكثير للأفراد والصدفة، مثلما هي الحال دائماً. كان حلفاء روما في إيطالية صعاب المراس، فحاربتهم أولاً ثم منحت المواطنة الرومانية لكامل شبه الجزيرة تقريباً، وبهذا لم تعد الكلمة الأخيرة للجمهورية في الحقيقة بيد المجالس الشعبية الرومانية التي لا تجتمع إلا في روما، ثم إن استمرار الحروب في الشرق قد أتى إلى روما بمزيد من القادة العسكريين الذين تملؤهم الطموحات السياسية. وفي حوالي عام 100 ق.م نشبت حالات طارئة في أفريقيا وجنوب غاليا أدت إلى منح سلطات استثنائية لقادة عسكريين كانوا ساسة في روما، فاستخدموها ضد خصومهم السياسيين فضلاٌ عن أعداء الجمهورية. وصارت روما مكاناً خطيراً تتفشى فيه الجرائم والعنف الشعبي عدا عن الدسائس والفساد السياسي، وبات الناس يخشون أن يظهر ديكتاتور ولكنه لم يعلموا من أين سيأتي.
ولم يخطر ببال أحد أن يكون الديكتاتور هو يوليوس قيصر فاتح غاليا. لقد منحته السنوات السبع التي قضاها هناك ثلاث ميزات عظيمة، فقد أبعدته عن روما بينما ألقي اللوم على غيره وتفاقم الفوضى والعنف والفساد، كما أنه بلغ درجة هائلة من الغنى، وكسب أيضاً ولاء أفضل الجيوش الرومانية وأحسنها تدريباً وخبرة، وكان جنوده يشعرون أنه رجل يهتم لحالهم ويضمن لهم الأجر والترقية والنصر.
لقد ظل قيصر دوماً شخصية خلابة، واعتبره الناس بطلاً مثلما اعتبروه شريراً، ومازالت سمعته تتأرجح بين هذا وذاك. صحيح أنه لم يبق طويلاً في القمة، وأنه مات على يد أعدائه، إلا أن كفاءاته لا يمكن أن يرقى الشك إليها. لقد كتب روايته عن حملاته الناجحة بلغة لاتينية هي من أفضل ما كتب في أيامه، وساهم هذا في تدعيم الإيمان بها، وكانت صفاته القيادية عظيمة كما كان رابط الجأش وذا صبر عنيد، ولم يكن متوحشاً، إلا أنه لم يعرف الرحمة. ومهما كانت أهدافه والناحية الأخلاقية لأعماله فيمكننا أن نجمع على الأقل على أنه لم يكن أسوأ من أكثر السياسيين في أيامه، وكثيراً ما كان يظهر نفسه بصورة أفضل منهم.